في غمرة فضائح التحرش الجنسي التي تجتاح كل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، والمتهم فيها بعض الوزراء ونواب البرلمان وحكام الولايات، أُقيل سكرتير الدولة الأول في الحكومة البريطانية "داميان غرين" أحد أقرب حلفاء رئيسة الوزراء "تيريزا ماي" من منصبه في مجلس الوزراء بعد أن أكد التحقيق أنه خرق القانون الوزاري البريطاني. القانون الوزاري الذي خرقه "غرين" هو ما يسمى "لائحة الأسلوب والممارسات الوزارية" التي تطورت عبر السنين والحكومات المتعددة، آخرها تعديل تم عليها في العام الماضي 2016م. 

اللائحة تتضمن إرشادات أهمها: الصدق التام، والأمانة، واحترام المركز الوظيفي والقانون، والتفاني في خدمة الشعب، وعدم الإتيان بتصرفات وأفعال تحرج الحكومة أو تقلل من قدرتها على العمل. وقد طُلب منه التنحي عن منصبه بعد أن وُجد أنه أدلى بمعلومات غير دقيقة ومضللة حول ادعاءات بالعثور على مواد إباحية على جهاز الحاسوب (الكومبيوتر) في مكتبه عام 2008م.

ما استدعى هذه الواقعة (الكذبة) بعد مرور حوالي 10 سنوات على حدوثها، هو انه في غمرة فضائح التحرش الجنسي خلال هذه الفترة،ان صحافية شابة إتهمت "غرين" بأنه غازلها واقترح أن يقيم علاقة معها عندما تقدمت بطلب للعمل في مكتبه قبل أعوام. لجنة مجلس الوزراء بدأت التحقيق في الادعاءات مما أدى الى تطورهابعدما تدخل طرف آخر وهو ضابط بوليس متقاعد كان قد تولى التحقيق في قضية تسريب ملفات إلى الصحافة قبل 13 عاماً. البوليس قام بتفتيش مكاتب نواب مشتبه في تسريبهم المعلومات ومنهم "غرين" نفسه، ولكن بسبب عدم ثبوت أي من التهم وقتهانسي الجميع الأمر. 

الوزير "غرين" أوقع نفسه في خطأ فظيع كثيرا ما يقع فيه المسؤولون من حيث لا يعلمون، حيث كان عليه التزام الصمت بانتظار نتائج لجنة التحقيق، لكنه بدلا من ذلك ادلى بتصريحات بأنه لا علم له بعثور البوليس على هذه الصور في جهاز الحاسوب (الكومبيوتر) قبل 13 عاماً. واتضح فيما بعد أن البوليس قدم لمحامي "غرين" وقتها كشفا كاملا بكل محتويات الكومبيوتر بما فيها الصور الإباحية، ولا بد أن محامي "غرين" أخبره أنه قد قدم معلومات كاذبة منذ أسبوعين فقط وهو في منصبه الوزاري، وهي مخالفة خطيرة للائحة السلوك الوزاري.

رئيسة الوزراء "تيريزا ماي" لم يكن لديها أي خيار سوى أن تطلب منه الاستقالة، وأعربت في رد مكتوب عن عمق أسفها لمغادرته الوزارة لكنها قالت بصراحة "إن أفعاله لم ترق للمستوى المتوقع"من وزير في منصبه. وتأتي استقالة "غرين" في غضون شهرين، إذ شهد شهر نوفمبر الماضي استقالة وزير الدفاع السابق "مايكل فالون" بسبب اتهامات بالتحرش الجنسي. 

الكذب من أخطر الجرائم الأخلاقية في قوانين الدول الديمقراطية، وقد تحطم المستقبل السياسي للكثير من الشخصيات السياسية الذين كذبوا خلال تبوئهم مناصب رسمية. الرئيس الأمريكي السابق "ريتشارد نيكسون" اضطر الى التنحي في بداية فترة رئاسته الثانية بسبب كذبه في فضيحة "ووترجيت".

ما يميز شعوب الدول الديمقراطية التي يسودها القانون الذي لا يعلوا عليه شيء ويطبق على الجميع بعدالة، انه إذا ارتكب مواطن –مهما علا مركزه الاجتماعي او الوظيفي – جرما يجب ان يتحمل مسؤولية هذا الجرم ويدفع كلفته مهما علت. هذه هي المعادلة بكل وضوح وبساطة وتطبق على الجميع بلا استثناء. وإذا كان مرتكب الجرم في مركز رسمي فهذا المركز تكليف وليس تشريف، والعقوبة على قدر الجرم. في الولايات المتحدة، أطاحت فضائح الاتهام بالتحرش الجنسي – حتى الآن – بعدد من النواب وحكام الولايات، وهم الآن ملاحقون قضائيا. أحدهم لم يستطع تحمل تبعات فضائحه فأقدم على الانتحار.

إستقالة او إقالة الوزراء والمسؤولون التنفيذيون في القطاعين العام والخاص، وكذلك النواب في البرلمانات وحكام الولايات، هو سلوكحضاري وتكريس لثقافة احترام القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء، وهذا ما يفتقر اليه العالم الثالث الذي من ضمنه عالمنا العربي. كما ان محاكمتهم تعد من السمات الحضارية المتقدمة التي لم نبلغها بعد.