&في عام 1916 رسم الفنان الروماني الشاب مارسيل جانكو لوحة تصور أمسية في احد نوادي زوريخ الليلية. وتصور اللوحة فنانين على المسرح يؤدون وصلاتهم على انغام بيانو وسط هرج الجمهور الذي كان غالبيتهم من السكارى. ويبدو فوق خشبة المسرح قناع اشبه بالجمجمة يستوحي فناً بدائياً افريقياً. وبجانب القناع، تتدلى في عتمة المشهد الكئيبة كلمة واحدة كأنها لافتة فوق عازف البيانو تقول "دادا". داداد هو بالطبع اسم الحركة الثقافية الثورية التي كهربت اوروبا قبل 100 سنة. وكانت ولادتها في هذا النادي الليلي الصاخب ليلة استضاف عرضاً مسرحياً ترفيهياً باسم "كباريه فولتير" الذي اختاره جانكو عنواناً للوحته.&
يقول الشاعر الالماني هوغو بول (عازف البيانو في اللوحة) الذي كان احد مؤسسي النادي، ان الرسام جانكو كان حاضرا ليلة افتتاح العرض المسرحي في 5 شباط/فبراير 1916. ويكتب بول في يومياته ان المكان كات مزدحما. واياً يكن ما حدث في تلك الليلة فانه أثار جمهور الحاضرين من الفنانين والبوهيميين. وكتب بول بعد فترة على تلك الليلة "ان الجميع أُصيبوا بخدر لا يمكن تحديده والكباريه الصغيرة تكاد تتفكك وستكون ساحة لعب لعواطف مجنونة". وتلتقط لوحة جانكو الخدر والعواطف المجنونة التي أطلقتها كباريه فولتير. ما زالت كباريه فولتير تقدم عروضها اليوم في المبنى نفسه الذي بدأت فيه. واحتفلت هذا العام بمرور 100 سنة على تأسيس الحركة الدادائية ببرنامج من الفعاليات والأعمال المسرحية. وتساءل الناقد الفني لصحيفة الديلي تلغراف الاستير سوك في حديث مع مدير الكباريه ادريان نوتس كيف شهد هذا المبنى القروسطي المتواضع في مدينة زوريخ القديمة، ميلاد واحدة من أهم الحركات الطليعية في الفن الحديث. قال نوتس ان هوغو بول كان مديرا مسرحياً وفيلسوفاً هاجر الى سويسرا من مدينة ميونيخ ومعه ايمي هيننغز مغنية الكباريه التي تزوجها لاحقاً. وعلى غرار كتاب آخرين مثل جيمس جويس وجد بول وهيننغز في زوريخ ملاذا آمنا خلال الأيام السوداء للحرب العالمية الأولى. وكتب بول "ان سويسرا قفص طيور تحيطه أسود تزأر". وبسبب حياد سويسرا توجه اليها مسالمون وثوريون بينهم فوضويون واشتراكيون بل ان فلاديمير لينين عاش في مكان يبعد عبور شارع فقط عن كباريه فولتير. لذا اكتسبت زوريخ طابعاً كوزموبوليتانياً خلال العقد الثاني من القرن العشرين. وحين قرر بول وهيننغز ان يفتحا كباريه خاصاً بهما في اوائل 1916 اصدر بول بياناً اوضح فيه ان بالامكان "الفنانين الضيوف ان يأتوا ويقدموا عروضاً مسرحية وقراءات شعرية في اللقاءات اليومية"، وأعد لليلة الافتتاح "ملصقات مستقبلية" علقها في مبنى الكباريه الجديد الذي كان يتسع لنحو 50 شخصاً. وأُطلق على الكباريه اسم الكاتب الفرنسي الساخر فولتير. حضر جانكو ليلة الافتتاح مع ثلاثة اصدقاء بينهم الشاعر والمبدع الروماني الآخر تريستان تزارا الذي اصبح من اقطاب الدادائية. كانت الكباريه تعمل ست ليال في الاسبوع ولكنها استمرت حتى صيف 1916 قبل ان تتوقف. وخلال هذه الفترة اصبحت كباريه فولتير رديفا للعروض الغريبة. إذ كان جانكو يصمم اقنعة وازياء بدائية تستوحي فن روما الفولكلوري وكان بول يلقي "قصائد صوتية" (نثر بلا كلمات) ترفض اللغة التقليدية. وكانت تُقام حفلات موسيقية تُستخدم فيها الآلات الطابعة والمعاول وأغطية الأواني المطبخية. وقال الفنان هانز آرب الذي ربطته علاقة وثيقة بالدادائية واصفاً احدى الليالي في كباريه فولتير "انها فوضى شاملة: الذين حولنا يزعقون ويضحكون ويتحدثون بالأيدي. وكانت اجاباتنا آهات حب ورشقات من التجشؤ.... تزارا يهز عجيزته كأنها بطن راقصة شرقية وجانكو يعزف على كمان غير مرئي وينحني ويحك... ومُنحنا لقباً فخرياً بتسميتنا "العدميين"" ولكن الفنانين الذين كانوا يقدمون عروضهم هذه في كباريه فولتير كانوا يفضلون تسمية مختلفة هي الدادائيون. ففي وقت ما، ربما نيسان/ابريل 1916 اكتُشفت كلمة "دادا"، ونُسب اكتشافها الى عدد من اعضاء الفرقة الفنية. وبحسب احدى الروايات فان الاسم اكتُشف بادخال سكين في قاموس الماني ـ فرنسي (دادا بالفرنسية كلمة يستخدمها الأطفال للاشارة الى لعبة حصان). وهناك من يقول انها اعتُمدت لأن تزارا وجانكو كانا يكرران القول "دا، دا"، أي "نعم، نعم".&
تكللت حياة كباريه فولتير بعرض ذائع الصيت في 23 حزيران/يونيو 1916 عندما ظهر بول على المسرح بملابس من الورق المقوى ثم بدأ يتمتم على طريقة القساوسة وفي النهاية انزلوه محمولا من المسرح وكأنه، على حد وصفه، "اسقف سحري". كانت الصدمة والاستفزاز أدوات دادا وكذلك المحاكاة الساخرة والتهريج والعروض الفنية العابثة. وكان الدادائيون يريدون بكل بساطة ان يستهدفوا مواضعات البورجوازية وعاداتها واعرافها التي كانوا يعتقدون انها مسؤولة عن الحرب. ولكن الدادائية جمعت بين اساليب ومدارس فنية مختلفة. فهي، كما يقول نوتس مدير الكباريه، تهتم بالموسيقى والفن البصري والرقص والشعر والشعر الصوتي والبيانات وما الى ذلك ثم تجمعها في كل واحد ـ لانتاج فعالية أو عرض حي. والدادائية ليست اسلوباً فنياً مثل التكعيبية له جمالية يمكن التعرف عليها بسهولة بل هي "موقف" ومحاكمة للأشياء والوجود بينها. ويتفق مؤرخ الفن ديتر بوكهارت مع هذا الرأي مشيرا الى عدم وجود جمالية دادائية لأنها متنوعة للغاية ولكن من العناصر التوحيدية في الفن البصري والشعر هو الكولاج. ويتبدى هذا بصورة خاصة في عمل الفنان الالماني كورت شفيترز الذي أوجد طريقة جديدة في رسم الصورة سماها "ميرتس" (من مفردة كوميرتس (تجارة) التي كانت ظاهرة في اعلان ممزق وقعت عليه عينه حين كان يتنزه في مدينته هانوفر. وكان شفيترز التقى الفنان هانز آرب في احد مقاهي برلين عام 1918 واصبح الاثنان صديقين حميمين. وكثيرا ما تُعتبر كولاجاته الساحرة التي تستخدم نتفاً من صور تجارية يُعثر عليها في مواد تجارية مثل بقايا التذاكر المستعملة، فرعاً من فروع الفن الدادائي. وبحسب الناقد الفني لصحيفة الديلي تلغراف الاستير سوك فان فنانين دادائيين مثل شفيترز يمكن حتى ان يوصفوا بأنهم "معادون للفن" بمعنى انهم كانوا يريدون قتل الرسم والطرق الفنية التقليدية. والفنان آرب مثال آخر. فهو "صمم" العديد من تكويناته بتمزيق مربعات غير منتظمة من الورق التجاري والقائها ارضاً ثم لصقها على مسند حيثما تسقط. ويقول المؤرخ بوكهارت "ان ما يوحد جميع الفنانين الدادائيين هو قطيعتهم الواضحة مع تاريخ الفن التقليدي وارساء الأساس لتاريخ الفن في فترة ما بعد الحرب والفن المعاصر". والحق ان انفتاح الدادائية المطلق أثر في ثقافة القرن العشرن خلال السنوات اللاحقة. ويلاحظ ادريان نوتس مدير كباريه فولتير ان في الفن نوعاً من التراث الدادائي في السوريالية وفلوكسس والموقفية والبانك وحتى جيل الـ"بيت" له ارتباطات بالدادائية ولكن دادا كذهنية وموقف تتخطى الفن. وكل جيل من المراهقين يستخدم دادا أداة للاحتجاج والتمرد".&
&
التعليقات