موسى الخميسي من روما: العديد من اطفالنا يتمتعون هذه الايام بالعطلة الصيفية، ومن حولهم تنتشر وسائل اللهو بمختلف انواعها واغراضها واهدافها الاستهلاكية المغرية، وتظل العائلة امام تحدي كبير يتمثل باهمية الوظيفة الثقافية، في واقع اجتماعي اهمل والى حد كبير مسالة الثقافة، لتتحول الى طبخات استهلاكية يومية فرضها التلفزيون ووسائل اللهو التكنولوجية المتطورة، بعد ان كانت العملية الثقافية في نهايات القرن الماضي تشكل بعدا هاما من ابعاد عملية التخطيط للانماء الاجتماعي، وتحدد الاطار الانساني.
الطفولة لا يمكن ان تزهر وتتطور خارج فضاءاتها التربوية السليمة، ذلك لان هذه الفضاءات هي القادرة على إغناء خيال الطفولة بالانطباعات الأخلاقية والمعرفية والجمالية، ويأتي في مقدمة العوامل التي تنشط خيال الطفل للارتقاء بالمهارات الإبداعية، عامل القراءة على اعتبار ان ثقافة الطفل بدأت تأخذ حيزا متناميا من الاهتمام في العديد من دول العالم، مع العلم ان اكثر من 40 بلدا في العالم لا يوجد فيها حتى الآن قوانين للتعليم الإلزامي، كما ان اكثر بكثير من هذا العدد من دول العالم تتجاهل حقوق الطفل وتخرقها بالرغم من مرور 30 سنة على إقرار حقوق الطفل عالميا.
أدب الطفل اصبح خاضعا لجملة من التقنيات الحديثة في الكتابة، إضافة الى الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق العديد من الذين يكتبون للطفل لزرع المفاهيم والمثل الإنسانية في عقله، واذكاء روح المحبة لديه،
ومع ان المدرسة نجحت في تقديم مئات الأشكال الفنية والمعرفية لتكون خطوة هامة في إبداع الطفل على اعتبار ان لكل طفل مولود مقدرة إبداعية، وان الأطفال بشكل عام لديهم موهبة الخلق والتعبير، وإذا اختفت المقومات التي تدعم وتشجع هذه المهارات فإنها تموت أحيانا في مهدها، الا ان من أهم عوامل التطور عند الطفولة بما تحمله من قدرات أولى للابتكار والتعامل الإنساني والعلمي، هو توجيهه نحو تعلم مهارة القراءة والكتابة والحساب، وتعلم المهارات الجسمية، واكتساب اتجاه سليم نحو الذات، وتعلم الدور الذي يليق بالجنس الذي ينتمي أليه، وتكوين الضمير ومعايير الأخلاق والقيم، وتنمية حس التخيل لديه.
من المفيد هنا العودة الى حوار قديم جديد، ماذا نريد من أدب الأطفال ان يقدم؟ وأي أدب يمكن توفيره للطفل لاجل الاطلاع عليه؟ هناك من يوظف اللغة بدرجة عالية من الشاعرية، ويؤدي غرضه بأشكال حالمة شفافة وغامضة بعض الشيء، وهناك من يميل الى الوضوح التام، والفكرة المركزة المحددة، بمعنى ان هناك من يرى الطفل عالما جميلا لديه القدرة العالية على فهم الخيال والتأملات، وآخر يرى في ذلك خطرا محدقا بالطفل، وابتعادا متعمدا عن إيصال المعاني التي نريدها بوضوح أليه.
ان أدب الطفل يخضع الى عوامل كثيرة منها الرؤية الفلسفية التي يحملها الكاتب نحو الطفل وكذلك ميله الشخصي الى الشفافية والمباشرة، ويضاف الى كل ذلك قدرة الكاتب اللغوية. وقد يحتاج الموضوع الى مباشرة وشفافية، او الى التعبير الحالم او الأسطوري، لكن باعتقادنا يجب ان لا ننسى ميل الطفل الى المادة القصيرة المركزة التي لا تحوي استطرادات في الكلام، فادب الطفل ليس كتابة طارئة او هامشية، بل هو عمل أدبي له مواصفات، أي إبداع أدبي آخر، تطلب منه الدقة اللغوية والبراعة في الأسلوب.
ان أدب الأطفال يعتبر ورشة تحضير الروح البشرية، فالكتاب المخصص للطفل مدعو في الأساس لتربية المشاعر الجمالية لدى الأطفال، لانه يكون قادرا على فتح عيونهم على العالم ويغني أرواحهم، ويرسم الجوانب الانفعالية في شخصياتهم.
الكتاب الموجه للأطفال قوة تربوية وتعليمية، فهو قادر ان يكون قلب مفتوح، ومن يتصدى للكتابة للأطفال لا بد ان يكون لديه ما يقوله لهم، اذ لا يقتصر العمل في كتاب الأطفال على مجرد تقديم نص فني على مستوى عال يأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الكلامية عند الأطفال، بل انه عمل يشمل النواحي التصويرية للنص، ذلك ان الأطفال هم اكثر من الآخرين تقبلا للرموز، وهذا ما يكسب الكتاب المصور بالرسوم الملونة أهمية مضاعفة.
يثير اهتمام الأطفال حيثما كانوا في العالم وأيا كانت جنسياتهم وقومياتهم الكتب التي التي تتعلق بالحكايات السحرية والأساطير والشعر والقصص العاطفية والمغامرات والقصص العلمية الخيالية، علما بان الأساليب في أدب الأطفال تتطور باستمرار الا ان أسلوب السرد القصصي الذي ينتقل من الحكاية الأسطورية إلى الحكاية ذات المغزى والتي لا تشكل المعجزة السحرية الشيء الرئيسي فيها، هي المفضلة لدى غالبية الأطفال.
لا نستطيع ان نفصل العطاء الثقافي عن العطاء التربوي، اذ من العبث ان ننتج ونرسم ونكتب للطفل موادا تحمل صور ووجوه وأفكار غير وجوهنا وأفكارنا وتردد أصواتا غير أصواتنا، لو أخذنا مثال أية مادة علمية مقدمة في كتاب أجنبي مترجم للمسنا بسهولة بعض الآثار السلبية لهذه العملية، رغم ان المادة العلمية واحدة لا تختلف في عالمنا العربي عما هو موجود في العالم الغربي، والسؤال الآن ما هذه الآثار السلبية؟ هذا التأثير يأتي من الصور او المثال الذي يساق لشرح هذه الظاهرة او تلك، فاذا قلنا للطفل مثلا ان الفيتامين الفلاني يكثر في الفاكهة الفلانية وذكرنا له اسم فاكهة لا يعرفها وغير موجودة في بلده وتقدم مثل هذه الفاكهة على طبق لا يوجد مثيله عند الطفل العربي وفي مطبخ لا يشبه بكل الأحوال مطبخه، فهنالك احتمالات ان تترسخ في نفس الطفل مشاعر بان ما يراه ملك لغيره وليس له من هنا تأتي المهمة المعقدة لانتاج الوسائل الثقافية للطفل، اذ يتوجب ترسيخ أصالة الثقافة لدى الطفل عبر تعامله مع الصورة والكلمة والحادثة والواقع المحلي بشكل يشد الطفل الى هذا الواقع ويعزز ثقته به ويربط به كل تطلعاته وأحاسيسه ومذاقاته الجمالية.
من المؤكد ان إبداع الطفل متأثر بالضرورة سلبا او إيجابا بتصورات وآراء الكبار، وسمات شخصياتهم ومستوياتهم الثقافية، ومواقفهم من إبداع الطفل بشكل عام، فبالرغم من تحديد المبادئ الأساسية التي ذكرناها للسلوك الإبداعي للطفل فان التعامل مع أسئلة الأطفال واختياراتهم وأسئلتهم وتفسيراتهم وإجاباتهم واستنتاجاتهم يجب ان يتم باحترام وعدم السخرية، ومن الأهمية بمكان التعرف على إبداعات الأطفال فكما الموسيقى تربي الطفل على الفضيلة كما يقول أفلاطون وتدعو الى الخيال والتذوق، فان الكتاب والمجلة والصحيفة الجيدة المرتبطين بالفكر والثقافة والجمال سيولد في الطفل عادات جيدة ويكون باعث قوي على التأكيد من ميل الطفل الغريزي للثقافة واطراد نموه ورقيه الى المستقبل.
المبدعون من الفنانين والأدباء والتشكيليين لهم رؤاهم في علاقة الطفولة بالإبداع انطلاقا من امتلاكهم للقدرات الإبداعية في مراحل طفولتهم، فالسنوات السبع الأولى من حياة الإنسان تشكل أساس حياته فيما بعد، وان معظم العقد النفسية تغرس جذورها في تلك المرحلة المبكرة من حياة الإنسان، ومن المعروف علميا ان الطفل في سنواته الأولى تكون ملكة الخيال لديه تفوق كل شيء، فاذا أدرك المربون هذه الملكة وصقلوها بالقصص والقراءات التي تحلق بخيال الطفل الى أعلى الآفاق، نما خيال الطفل، اذ ستختزن تلك الموهبة وتتفجر بكامل قواها في مجال الإبداع والابتكار. فمن سن 7 سنوات الى مرحلة البلوغ تنمو موهبة الملاحظة، وعلى المربي والكاتب إدراك ذلك بحيث ينمي ملكة الملاحظة فيمن يربيهم ويستعمل أسلوب المقارنة تلهب القدرة الفكرية عند الطفل والانسان عموما فتصل به الى الحقائق.
واذا كانت الثقافة قد تراجعت في عدد من البلدان العربية أمام أولويات الطفل العربي لتسبقها الحاجة الملحة للغذاء والصحة والتعليم، في ظروف الكوارث الطبيعية والحروب، فهذا لا ينفي قيمة الثقافة ودورها في صياغة طفل عربي، يتمتع بمواهب وقدرات خاصة ولا بد من ان يحتاج الأمر الى وضع المبادئ الأساسية التي تحكم مجلات وكتب وصحافة الطفل العربي، لتحقيق الجوانب العلمية المرجوة من إنشائها.