آخر فتوات مصر وقصة مسجد اليهودي كعب الأحبار
حارة السقايين.. حكاية قاهرية برسم الأفول
تحقيق يكتبه من القاهرة نبيل شرف الدين: لم يعرفها بعد من يختزلها في مجرد تصنيفها كمدينة أو عاصمة، لأن القاهرة ببساطة ليست هكذا فحسب، بل هي quot;مجمع مدنquot; وأرياف وعشوائيات وأحياء وحواري يفوح منها التاريخ، وتكاد تنطق بعض بناياتها بحكايات الذين سكنوها أو حتى ترددوا عليها، وفي المسافة الممتدة بين دلتا النهر وواديه تتربع عاصمة الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانلية وحتى الخديوية، وصولاً إلى القاهرة العشوائية الراهنة، بملايينها الستة عشر، كأنها تمساح أسطوري اختار أن يرقد في هذه المسافة الفاصلة جغرافياً وتاريخياً بين الشمال والجنوب.
وحتى لا نتوه في دهاليز التاريخ وتضاريس الجغرافيا، لندع أقدامنا تسير بهدوئها المفتقد وعيوننا تتأمل بعض التفاصيل الآخذة في الغياب، ولتكن القاهرة الفاطمية محطتنا الأولى حيث شوارعها النابضة بعبق التاريخ أمام قاهرة الـ quot;فاست فوودquot;، وناطحات السحاب وثقافة quot;المولquot;، والفكر الجديد لأمانة السياسات.
ونستهل جولتنا من شارع الناصرية في حي السيدة زينب العتيق، ويبدأ من جهة ضريح ومقام السيدة زينب، وهناك يغوص المرء في بحر رائع وإن لم يكن به ماء بل أمواج زرقاء راقصة ومرحة وبريئة ينتشي بها أصغراك (قلبك ولسانك)، إذ ترى بنات المدرسة السنية كأنهن ملائكة ترتدين مرايل زرقاء، ويسرن جماعات وفرادى وتعلو أصوات وتنخفض أخرى، بينما تشترك الغالبية في تلك الحقائب الصغير المعلقة على الأكتاف تملؤها الكتب والأقلام الرخيصة، وبدايات عشق سيعرف طريقه إلى الجميع، (مدرسة السنية الإعدادية بنات) مساحة واسعة ومبنى قديم وفناء متسع احتفظت أرضه بخطوات الآلاف صار لكل منهم تاريخ خاص، وهي المدرسة التي أنشأها رفاعة الطهطاوي في بداية مشروعه الخاص للنهضة المصرية، وكانت تحمل اسم (المبتديان)، وهي بالأساس كانت قصرا (للبرديسي) وهو حاكم إقليم سوهاج جنوب مصر، قبل أن يصل محمد علي باشا إلى حكم لمصر بسنوات قليلة، وفي هذه المدرسة تخرجت الجيل الأول من الرائدات مثل هدى شعرواي وسيزا نبراوي وملك حفني وغيرهن في تلك المدرسة التي أنشئت في 1873م، ولعله فارق شاسع بين تلميذات أوائل القرن. وبين بنات السيدة زينب الآن وقتها كانت تلك المدارس القليلة لصفوة نادرة في حين تتلاحم الأرواح الآن لتكون نشيد جماعي أكثر من رائع.. ومن الناحية الأخرى من الشارع. ستجد عمارة مرتفعة وتبدو كئيبة وميتة، حيث أغلبها مكاتب وعيادات أطباء وسكن للطالبات المغتربات. يبدو عليها صمت كبير في هذا الوقت في حين يحتل الدور السفلي بأكمله فرعا لمحلات (عمر أفندي) وهي من بقايا الشركات التي كانت تتبع القطاع العام، وفي موضع هذه البناية كان هناك مقر لخيول الملك فؤاد ومن بعده فاروق الذي كان يعشق الفروسية والصيد، وبعد أن صعدت هذه البناية الضخمة لم يبق من المكان سوى حارة تعرف باسم (حارة السايس) وهو الذي كانت توكل له مهمة رعاية الخيل وترويضها.
قنطرة سنقر
لا مفر من أن نواصل السير في الشارع حتى نهايته ثم نعود من الجهة المقابلة، فبعد الساحة الزينبية مباشرة توجد حارة (الكنيسي) وهي ضيقة للغاية حيث تجلس النسوة الكبيرات أمام البيوت المتلاحقة. بطيبة نفتقدها كثيرا.. حارة ضيقة وصغيرة.. ستجاوزها لتجد بعدها (درب البندق) الذي يشبهها كثيرا وإن كان أكثر اتساعا ويوصلك إلى شارع خيرت الأكثر شهرة في هذا الحي حيث يخص أملاك عائلة الموسيقار عمر خيرت، وعلى ناحية درب البندق مساحة كبيرة تحاوطها الأسلاك حيث تقوم إحدى شركات المقاولات الكبرى بإحلال وتجديد مسجد (قايتباي الرماح) الذي انتكس بعد زلزال التسعينيات. وهو نموذج مطابق لمسجد (قايتباي الرماح) الموجود بقلعة صلاح الدين الأيوبي.. وفي نفس الصف شارع (صبحي) يليه (يعقوب) ثم أخيرا شارع المسجد الإسماعيلي، هذا المسجد الذي بناه الأمير (أرجون) الإسماعيلي على البركة الناصرية في شعبان 748 هـ وهو من أكبر المساجد بالمنطقة وتتضح فيه العمارة الإسلامية وقت ازدهارها من خلال التصميم المعماري والزخرفة واختيار الألوان وطرق كتابة الآيات القرآنية.. وتبدو المئذنة كتحفة معمارية بشكلها الطولي المتميز. وأمام المسجد الإسماعيلي العلامة المميزة للشارع ستجد (مراجيح) صغيرة للأطفال بألوانها الصارخة الفرحة (أحمر. أخضر. أزرق. برتقالي..) وأطفال قلائل يمكن أن تلمحهم الآن فرحين وهادئين. فالجميع تقريبا مشغول ولا أحد يسير ببطء يبدو أن طوفانا سيأتي والجميع يستعدون للرحيل قبل هلاكهم. مثلا ما يقوله أحد شباب الشارع: أنا في كلية تجارة القاهرة.. الشارع زحمة على طول، أنا لا اجلس على مقاهي شارع الناصرية، حيث اسهر في الفنادق مع أصحابي.. أو مقاهي فيصل والهرم.. لأن المقاهي عندنا في الناصرية زحمة جدا.. ويرتادها ناس كبار وعواجيز.. كما أن هذه المقاهي لم تعد ظريفة.. أغلب شباب المنطقة جامعيون. أنا أقاربي من الدرب الأحمر. لكن عمي يقيم معنا في نفس الشارع، طبعا قليل جدا لما أزور بيت عمي أو أقاربي ربما في المناسبات، أمي تزور الجيران على طول وأبي أغلب الوقت يجلس بالمقهى أما الشباب فهم مشغولون بالعمل. أنا أتمنى أن أعيش في مكان افضل من الناصرية.
وبعد أن تمر بك هذه الحواري والشوارع الصغيرة من الناصرية ستكون قد وصلت إلى آخر (الناصرية) حيث يوجد (سوق الاثنين) وهو من أكبر الأسواق بالقاهرة وبه كل شيء من الفاكهة والخضروات وحتى الملابس والأحذية ولعب الأطفال، ومكان السوق كانت توجد قنطرة quot;سنقرquot; وكانت من أشهر القناطر المقامة على الخليج الناصري، وكانت تربط بين حي عابدين والحلمية الجديدة ودرب الجماميز، لا شك أنك سترفض بينك وبين نفسك أن ينتهي هذا الشارع أو هذه القطعة من الحياة النابضة، لذا سترجع في الناصرية لتبدأ من جديد من مدرسة quot;السنيةquot; وتكمل الصف المجاور لها.. أول ما يقابلك سيكون حارة (قواوير) هذه الحارة الطويلة المتعرجة والتي تنتهي بسوق للعلافة وبها أيضا مسجد الحنفي الشهير والذي أسسه الشيخ شمس الدين بن حسن بن الحنفي سنة 817هـ.
حارة السقايين
وثاني الحارات من هذا الشارع، حارة (النور) والمعروفة باسم (درب أبو لحاف) لوجود العديد من (المنجدين) وتجار قطن التنجيد، ولهذه الحارة تاريخ خاص حيث غنت بها أم كلثوم في بداية حياتها عندما كانت تلبس العقال في طفولتها وكانت غالبا ما تقرأ القرآن والأناشيد الصوفية، بعدها ستأتي حارة (القرودي) أو كما يسمونها حاليا فهي (درب الغزالي) ولعل التناقض المضحك يبدو واضحا في تغيير الاسم عملا أو تأثرا بالمثل الشعبي (القرد في عين أمه غزال).
| السقا |
وتبدو حارة (السقايين) كما لو كانت حيا مستقلا متعدد الحواري الصغيرة منها مثلا حارة (الزيرالمعلق) آخر الحارات من الناحية اليمين. حيث كانت تنتشر quot;أزيارquot; المياه أمام بيوت الأغنياء والفقراء معا.. وكان أحد البخلاء قد وضع زيرا عاليا على ناصية بيته وفي مكان مرتفع وعلقه بسلاسل حديدية، كذلك فعل quot;بالكوزquot; أو quot;كوب الماءquot; ثم وضع تحته حجرا كبيرا يصعد عليه من يريد الشرب. ليمسك بالكوز ويحاول ملئه وقد ينجح أو يفشل كل ذلك خوفا على سرقة الكوز، لذا سميت (حارة الزير المعلق). وتعتبر حارة السقايين ذات خصوصية كبيرة وشهرة واسعة نظرا لمن عاشوا فيها.. وأشهرهم مثلا (محمد دري) صاحب أول مطبعة في الشرق لطباعة الكتب الطبية.. وكانت تعرف باسم المطبعة الدرية.. كذلك من سكان الحارة المتشرف الإنجليزي المعروف (إدوار وليم لين) الذي كان يلبس ملابس أولاد البلد، وقد أطلق على نفسه اسم منصور أفندي، وهو مؤلف الكتاب الشهير (المصريون المحدثون عاداتهم وتقاليدهم)، وأيضا من سكان الحارة بطرس باشا غالي أول رئيس وزراء مسيحي في تاريخ مصر وجد بطرس بطرس غالي سكرتير عام الأمم المتحدة سابقاً، وداوود بركات الذي تولى رئاسة تحرير quot;الأهرامquot;.
والناصرية عموما يمكن اعتبارها مقهى ضخماً، إذ تنتشر على جانبي الشارع مقاه متلاحقة وتربض الشيشة ودخانها المريح بالإضافة لأكواب الشاي الجميلة، هي إذن مقهى كبير خاصة في رمضان، حيث يسهر الجميع حتى الفجر وتنتشر فرق quot;الصهبجيةquot; والغناء الشعبي والعزف المنفرد على العود، أجواء من الموسيقى والإيقاع والغناء تشبه تماما فرحة الميلاد وسيطرة الأمل. بينما تنتشر في باقي أيام السنة أفلام الفيديو طوال اليوم، حيث يجلس أمامها الجميع مشدوهين يسلمون مشاعرهم وعيونهم لنجوم هوليوود، أو للأفلام الهندية ومشاعرها المترهلة ووقائعها الممطوطة بلا نهايات.
كعب الأحبار
وبينما ستغمض عينيك وتتخيل صوت خيول طليقة تدق الأرض بجوارك ستكون قد خطوت خطوات قليلة تكفيك لأن تصل إلى مسجد قديم له شموخ غير عادي وطراز معماري يندر وجوده تقريبا وهو مسجد (كعب الأحبار) والذي يبدو كقطعة فريدة ومحيرة بداية من اسمه وحتى شكله. فالجميع يعرف أن الأحبار هم أصحاب الديانة اليهودية، وكعب الأحبار هو واحد من هؤلاء.. ستفكر بالتأكيد في قصته ولماذا احتفظ المسجد بهذا الاسم؟ نفس الأسئلة التي كانت تراودنا.. في حين كنا ندور بأعيننا على جدران المسجد من الخارج. ولمحناه جالسا أمام المسجد يسند ظهره ويغمض عينيه بينما بيده مسبحة طويلة ويتكلم بصوت منخفض عجوز تلخص ملامحه الأساطير المصرية من الفراعنة وحتى المماليك.. اسمي (عبد الغني أحمد حسين) 78 سنة.. أنا أخدم في الجامع من 18 سنة. أنا من الفيوم. فلاح. لكن لم يعد لي أرض أزرعها. تركت قريتي وجئت إلى (أم هاشم) أحكي لها. ولم تزدني. في نفس اليوم جلست أمام مسجد (كعب الأحبار) ومن يومها لم أفارقه، أقوم بحراسته وإقامة الشعائر وتنظيفه.. الجامع ده عمره لا يقل عن ألف سنة. بناه (كعب الأحبار) وكان حبراً يهودياً كبيراً ثم أسلم، وهو مدفون وله ضريح بالمسجد.. وبجواره (محمد أبو اليسر) وكان
| القاهرة القديمة |
آخر الفتوات
ومن أشهر مقاهي الشارع مقهى (العنبة الجديدة) وعمره أكثر من 70 عاما، و(النادي الأهلي) ولا يجلس عليه سوى مشجعو هذا النادي خاصة أثناء مباريات كرة القدم، وعلى المقاهي يمكن أن تجد كل الأعمال. ستجد الشيوخ الكبار يجلسون في الأركان يلعبون (الدومينو) أو (الطاولة) ويختلفون كل حين بأصوات مرتفعة. يحاولون خلق مشاجرة وهمية يملأون بها حياتهم الفارغة بعد التقاعد، ومنهم من كان في شبابه يملأ الدنيا بالضجيج.. وأكثر هؤلاء بالطبع من كان (فتوة) زمانه.
وبالطبع فإن مفهوم (الفتوة) يختلف تماما عن البلطجة أو استخدام القوة مع الضعفاء، بل هي عكس ذلك تماماً، إذ تعني الانتصار للبسطاء والضعفاء وحفظ النظام وحماية الحي من الغرباء والدخلاء، وعندما سألت عما إذا كان لم يزل هناك أحد هؤلاء الفتوات القدامى على قيد الحياة دلني رواد المقهى على (الحاج جلال)، الذي كان قابعاً في ركن (مقهى العنبة) جالساً على مقعد خشبي متهالك، لا يبدو أفضل حالاً من الرجل الثمانيني الذي بدا وكأنه استسلم تماماً لعاديات الزمان، مثقلاً بأكوام الشحم ويكاد يكون محشوراً في جلباب متواضع لكنه حرص أن يكون نظيفاً وعصاه لا تفارق يده، وإن كان يستخدمها الآن لمعاونته على السير بضع خطوات من منزله إلى المقهى، بعد أن كان يستخدمها زمن الفتونة والفتوات في الضرب والنزال والتحطيب وكل فنون quot;العراك البلديquot; والاستعراض البلدي أيضاً.
لم يكن الحاج جلال راغباً في الكلام، ولكنه تحدث بعد أن أقنعناه بأهمية حديثه، quot;نعم كنت فتوة، لكن الحمد لله حجيت بيت ربنا ثلاث مرات. وعمري ما سعيت لإيذاء أحد. لقد كان أبي فتوة الناصرية والسيدة زينب سنين طويلة. ولقد رباني على الفتونة.. كنت اسمع شكاوى الناس ومظالمهم واقدم لهم ما استطيع من حلول لها لأن الحكومة زمان كانت بعيدة عن الناس. زمان كان الناس افضل من اليوم. وكان نادراً ان تجد شخصاً مؤذياً حتى البلطجي كان عنده شرف.. الآن لا يوجد فتوات. الفتوة كانت رجولة وليست قوة ذراع فقط. الآن انا اجلس معظم وقتي على المقهى لقد نسيني الناس فلا أحد يتذكرني الان. نترك الحاج جلال.. كما نترك كل الناس الأساطير بهذا الشارع. لابد أنك تشعر بالجوع مثلنا تماما بعد هذا المشي ومشاهدة هذا التاريخ المرسوم على وجوه الناس والأماكن.. ستكون في حاجة مثلنا إلى الطعام. وأشهر ما في الناصرية مطاعم (اللحم السمين) حيث مطاعم (بحة) والحاج محمد و(أولاد أبو السعود).. ستأكل حتى تشبع.. أكلات ساخنة وطازجة، وربما تصيبك بالخمول والرغبة في النوم، مثلا (الكرشة ولحم الرأس والفتة والكوارع والممبار وغيرها) ستأكل بنهم ولذة بينما قطط كثيرة تتقافز حولك وتطمع في مشاركتك ولو بلقيمات قليلة، بعد كل هذا هل تفكر في أن تسكن هذا الشارع ؟، يبدوا ذلك صعبا لارتفاع أسعار العقارات بسبب متاخمتها لوسط القاهرة، لكن قد تكفي المرء زيارات متباعدة لهذا المكان المفعم بعبق التاريخ، الذي يلامس فيه روح القاهرة الحقيقية ويرى بعينيه تاريخاً حياً ينبض بالأصالة، ويتحدى كل مظاهر الزيف والادعاء.




التعليقات