جامعيون ينظفون شوارع لندن
سخط على حكوماتهم ورضى بالنصيب

سليمان بوصوفة من لندن: ليس بعيدا عن محطة كامدن تاون لقطارات الأنفاق شمال لندن، يستريح محمد (في الثلاثينات من عمره) عند المقهى المجاور للمحطة ليلتقط أنفاسه بعد عناء طويل.. محمد الذي يعمل عند شركة فيوليا veolia التي تتكفل بتنظيف شوارع لندن ؛ يترك عربته التي تلازمه طوال الوقت؛ بمحاذاة الرصيف ثم يطلب فنجان قهوة من صديقه الذي يعمل في المقهى ويطلب منه رفع صوت موسيقى الراي الجزائرية ؛ لعله يشبع عاطفة من اشتياقه إلى الوطن . يسأل عن حال البلاد ويستفسر عن بعض أصدقائه؛ يُطلق نكتا جديدة ثم يدفع عربته ليُنظف مخلّفات زوار سوق كامدن الشعبية التي يتوافد إليها السواح من جميع بقاع العالم؛

محمد يفضل العمل بعيدا عن المنطقة التي يسكنها ويبدأ عمله اليومي انطلاقا من الخامسة مساء ولغاية ساعة متأخرة من الليل؛ يقول إنه يتجنب الازدحام ؛ لكنني أفهم معاناته مع عمل يعتبره الكثيرون (عارا) إنه وبكل بساطة يتجنب نظرات الازدراء والتعليقات التي يُطلقها شبان جزائريون مثله! فمهنته هي التنظيف لذلك فإنه منظف؛ لكن المصطلح التقليدي الذي يلاحقه هو (الزّبال)!

يقول عن حياته قبل دخوله إلى بريطانيا : كنت أشتغل في شركة حكومية في الجزائر؛ لكن الحكومة قررت تسريح الآلاف من العمال بحكم اتفاقاتها مع الخارج (يقصد هنا شروط صندوق النقد الدولي) ومنذ ذلك الوقت طرقتُ كل الأبواب لكن لا حياة لمن تنادي !

كل شيء يمر عن طريق المعريفة (الواسطة) لذلك فقد قررتُ الهجرة والعمل في أي مهنة شريفة لإعالة أسرتي علما بأنني متزوج وأب لطفلة ؛مستعد لفعل أي شيء من أجلها .

ظاهرة عمل الشباب العرب وخصوصا الجزائريين كمنظفين للشوارع في لندن أصبحت عادية ؛ وإذا كان محمد لم يُكمل دراسته الثانوية فإن قاسم يقول إنه تخرجفي معهد التاريخ في جامعة بوزريعة ( الجزائر العاصمة) سألته لماذا هذه المهنة؟ قال: إنها مربحة لأن الكل يرفضها ! و الشركات التي تتولى التوظيف لا تسأل كما هي العادة عن الخبرة ولا تُدقق كثيرا في وثائق الإقامة؛ كما أن الحاجة إلى المال واحتياجات عائلتي الكبيرة لم تُوفر لي خيارات كثيرة!

قاسم تعرفْت إليه في الشوارع المتفرعة من أوكسفورد ستريت في قلب لندن؛ شاب مثقف ومهذب وعندما يتحدث عن الجزائر وسياستها يقول : إنه من المضحك أن يتخرج الآلاف سنويا من جامعاتنا بشهادات الليسانس في العلوم الاجتماعية والانسانية وينضمون إلى قوافل البطالين على الأرصفة! لو كنت أدري ما سيفعله بي الزمن ؟ لتخصصْت في فن الطبخ! فالطباخون محترمون هنا خصوصا في المطاعم الراقية؛ ويتلقون أجورا خيالية!

أغلبية الذين تحدثتُ إليهم هربوا من الجزائر في سنوات الإرهاب وفضلوا البقاء في بريطانيا؛ لأن غلاء المعيشة وانسداد الأفق حسب رأيهم لا يعطي أملا للعودة. وعن سر تهافت الجزائريين على هذه المهنة يقول عز الدين الذي رفض الحديث عن حياته الشخصية: إن الشركة التي كانت تتولى هذه المهمة ؛ كانت شركة أونيكس الفرنسية onyx وفي بداياتها تمكن الجزائريون وبفضل إتقانهم للغة الفرنسية من كسب ثقة المسؤولين واستلام مناصب إدارية في الشركة ومن ثم توظيف معارفهم.

صديق عز الدين في المهنة قال إن أصعب لحظة مرّ بها هي : حينما تقدم لخطبة فتاة عربية وأبدت استعدادها لفكرة الزواج منه وحينما اكتشفت أنه منظفٌ للشوارع فرّت بجلدها!!

شركتا أونيكس ثم فيوليا يعمل فيها الآلاف من المهاجرين خصوصا الألبان والوافدين من أوروبا الشرقية ومن الدول الإفريقية الفقيرة إضافة إلى العرب حيث تطغى الجنسيات الفلسطينية والجزائرية و المغربية على الموظفين. ويواجه عمال التنظيف حسب محدثينا مشاكل عديدة؛ منها معاملة السكارى لهم في ساعات الصباح الاولى وتواجد بعض المواد الكيماوية في النفايات ما أدى ببعضهم عند ملامستها إلى الشعور بالعياء والغثيان ليتم نقلهم إلى المستشفيات ؛ هذا إضافة إلى نظرة المجتمع الدونية لهم.

وما عساني أقول لهؤلاء ( خادم الناس سيّدهم ) كما يقول المثل.