نعمة خالد من دمشق: السوق لا تبعد عن بيتي سوى ما يقرب من مئة متر، ولأن شغلي لا يسمح لي بالذهاب يومياً إليه، فقد قر قراري أن آتي بخضرة أيام أربعة. وأخذت معي ما ظننت أنه يكفي لهذا. في السوق، وهي شعبية ويعرف عنها أنها أرخص سوق في دمشق ما بعد سوق الهال الذي يبيع بالجملة لتجار المفرق، ألفيت العديد من البسطات فارغة من الخضار، لا لأن الخضار قد بيعت،بل لأن أصحابها لم يشاءوا أن يأتوا بخضار قد تكسد عندهم لعدم قدرة الناس الشرائية.

رحت أقف عند البسطات الفقيرة بأنواع الخضار، وأسأل عن الأسعار لألفي أن العديد منها قد قفز بنسبة مئة بالمئة، وأخرى مئتين بالمئة، وثالثة: ثلاثمئة بالمئة.

كنت أجر عربتي خالية الوفاض، فالخبيزة التي تتكرم بها الطبيعة علينا، تجاوز سعر الكيلو منها الدولار وربع، كذلك الهندبة، أما باقي الخضار التي تحتاج الى بذار وإلى سقاية ومجهود المزارع فحدث عنها ولا حرج، فضمة البقدونس وصل سعرها إلى ربع دولار، كذلك الكسبرة، وإذا ما تجرأت لأرفع سقف متطلباتي من الكوسا، فإن الكيلو غرام منه قد وصل سعره إلى الدولارات الثلاثة، أما الباذنجان فقد وصل كيلو العجمي لا البلدي إلى الدولار.

رحت أرقب جموع المتوافدين إلى السوق، فألفيت أن غالبيتهم مكونون الدهشة والغرابة وقلة الحيلة.
أم أحمد سيدة مسؤولة عن عائلة مكونة من ستة أشخاص، زوجها يعمل ناطور بناء، فالعمران قد نشط في سورية منذ فترة، ولا أعرف لماذا؟ هب هي مزيد من الاستثمار لأصحاب الأموال الطبقة الأغنى؟ لا شك في ذلك. فحال سواد الشعب لا يمتلك الفائض ليشتري من هذه الشقق التي تفرخ بجنون ملتهمة المساحة الخضراء التي كانت تشكل في يوم من الأيام رئة دمشق.

على كل لا أريد أن أخرج عن الموضوع. استوقفت أم أحمد وسألتها: ما رأيك بهذه الأسعار: قلت ببساطة المرأة التي لا حيلة لها: شي جنان، والله ما قادرة أشتري كيلو بطاطا، معي مئة ليرة، شو رح تجيب؟ ولسة الخبز ومصروف الأولاد للمدرسة. حيرة أم أحمد كانت قد سكنتني، فما كنت أحمل من مبلغ، لا يكفي سوى لخضرة يوم واحد، لطبخة ليست متطلبة، وما كان قد أراحني أني أستطيع أن أطبخها دون استعانة باللحم، لأن أسرتي جلهم من النباتيين، فكيلو اللحمة قد وصل إلى 12 دولارا.

وما زاد الأمر غرابة لدي، أني تذكرت يوماً سؤالاً كان جورج قرداحي قد سأله لمتسابق عن أغنى دولة بمقدراتها، وكان قد عدد السعودية، مصر وسوريا، وليبيا. لا أخفيكم أني لو كنت مكان المتسابق لكانت إجابتي خاطئة، لأن ما تبادر لذهني هو السعودية، فهي ملجأ للعمالة لكثير من العرب بهدف تحسين الأحوال. والمتسابق كان مثلي، لكن الإجابة الصحيحة كانت هي سورية.

قلت ثمة خطأ في الإجابة لا شك في ذلك، كيف تكون سورية هي الأغنى بين ما عدد، ورواتب بعض الموظفين لا تتجاوز المئة وخمسين دولاراً؟

بل كيف يمكن لأم أحمد أن تيسر أمور عائلتها بيومية لزوجها لا تزيد عن أربعة دولارات يومياً؟

تجاوزت أم محمد واستوقفت شاباً، لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، وقد ظهر عليه أنه عريس جديد، فهو وزوجته فقط قد يكون أمر الغلاء عليه أقل وطأة وكنت بحاجة إلى من ينغخ بي روح الأمل بعد ما ألفيت من غلاء، كان اسمه غسان، سألته: كيف تجد السوق: تنهد غسان وقال: حتى الآن لا أعرف ماذا سآخذ، كل شيء نار، صحن التبولة التي تحضر زوجتي العروس لأن تعده كمقبلات لغدائنا قد تزيد تكلفته عن الدولارات الأربعة. أجبته ممازحة: ضروري الغنج والتبولة. رد بغضب: لاأذكر ذلك على سبيل الغنج، بل لأدلل لك على مدى الغلاء. فأي طبخة كانت تكلف قبل مدة ست دولارات تحتاج اليوم إلى ما يزيد عن الدولارات الثمانية. هذا إذا حيدت الطبابة واللبس، وأي طارئ قد يحدث دون أن نحسب حسابه.

سألته عن عمله. فقال أنا مهندس معماري، خريج جديد، وراتبي لا يصل إل المئتي دولار، وزوجتي مهندسة، لكني حتى أستطيع دفع أجرة بيتي، التي تصل إلى مئة وعشرين دولاراً، وهو غرفة وصالة، وحتى أساهم في إعالة والدي، بمبلغ يسير يسند معيشتهم إضافة لإخوتي، فإني أقضي ساعات على الأوتوكاد لأرسم مشاريع لشركات معمارية، تسندني قليلاً حتى لا أغرق بالدين.

لم أصدق أن كل شيء قد ارتفع، وقلت ربما الصقيع الذي ضرب موسم الخضار هو السبب في موجة الغلاء هذه. لذا توجهت إلى السوبر ماركت، ورحت أسأل: فوجدت أن الزيت النباتي قد ارتفع بنسبة خمسين بالمئة، وكذلك الرز، والعدس، والسمنة، والشاي والسكر، وغالبية المواد الغذائية. في الصيدلية وجدت أن الكثير من الأدوية قد ارتفع سعرها، فعلبة الزنتاك وهو دواء للمعدة، قد ارتفع بنسبة ثلاثين بالمئة، أما حليب الأطفال، والذي يقع ضمن برامج غالبية الدول ضمن أولوياتها من أجل جيل صحيح البدن، ويضمن للأطفال نمواً سليما، فقد وصل كيس حليب النيدو بوزن كيلو غرام، إلى خمسة دولارات.

وفي جولة مسائية، ألفيت أن محلات سندويش الفلافل قد غصت بالرواد، فتساءلت: هل لجأ الناس لسد جوعهم إلى سندويش الفلافل، ولو افترضت أن سندويشة الفلافل ب 15 ليرة سورية، وأن عائلة من أربعة أشخاص، وهذا عدد نادراً ما نجده في منطقتنا، فالإنجاب سمة من سمات مجتمعنا، على كل هذه العائلة أرادت أن تتناول وجباتها الثلاث فلافل كما قلت فالحسب تقول إن كل شخص يحتاج إلى ستين ليرة، أربعة يحتاجون إلى 240 ليرة سورية، أي خمسة دولارات يومياً هذا يعني أنهم يحتاجون إلى مئة وخمسين دولاراً في الشهر، لكننا لم نحسب حساب التدفئة والطبابة وفواتير الكهرباء والهاتف إذا كانت الأسرة من البطر بحيث تقتني هاتفا.
ولعل لجوء بعض الموظفين للرشاوي من أجل إنجاز معاملة لمواطن ما صار له ما يبرره في ظل هكذا أوضاع معيشية. رغم أن مبادئ الأخلاق تمنع هذا كذا مبادئ الدين. لكن مال العمل. لعل الرشوة أقل وطأة من اللجوء إلى السرقة.

أذكر قولا لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيه: لو كان الفقر رجلاً لقتلته، لكن الفقر في أيامنا هذه راح يقتل العديدين ليس جوعاً، وهو إذا ما استمر الحال على ما هو عليه سيكون آفة تأكل العديدين، لكن قهراً لعدم قدرة هؤلاء على تأمين سبل العيش لأبنائهم، أو لأنهم يتجاوزون طاقة أجسادهم في العمل المستمر من أجل تأمين قوت أولادهم.

مواطنة قالت إنها تتمنى ان يلتفت احد لصراخ الناس من الغلاء و لعل مسؤولاً يسمع، ويجعل من لجان رقابة التموين تقوم بواجبها لا تتوزع في المحلات والأسواق لتأخذ حصتها من التجار الذين لا هم لهم سوى ملء جيوبهم بالمزيد من مال وقهر المقهورين. فهل كان المسؤولون في غفلة عن أزمة الغاز الذي وصلت فيه سعر العبوة إلى ما يزيد عن الدولارات الستة، أو عن سعر المازوت الذي وصلت فيه قيمة العشرين ليتراً إلى خمسة دولارات أيضاً.