في جنوب العراق توجد مسطحات مائية شاسعة فيها جزر صغيرة عائمة، وبيوت ذهبية من القصب يسكنها أناس ورثوا الحضارة السومرية، فاحتفظوا بملامح وجوههم وطرق حياتهم، ومدن الماء التي تشكلت بوجود تلك الطبيعة.
دلال جويد:quot;الماء رائق كالبلور، والنبت يغطي القعر، شاهدت سمكا وأكاليل وردية طافية على السطح، انسللنا بصمت، بعيدا عن المرج الأخضر وانزلقنا بين جدران باسقة من القصب والعشب المائي، وحين غطتنا النباتات المائية، وأغلقت البوابات الخضراء خلفنا.. شعرنا أننا غادرنا صخب العالم الحديث وضجيجه وانتقلنا بسرعة مركبة فضائية إلى الماضي السحيق. أحسست أننا نسافر في الزمن إلى الوراء، ليس إلى الهمجية والأخطار، بل إلى حضارة بعيدة عن ذلك كبعد حضارتنا المعاصرة، لكنها عجيبة في البساطة وعدم التعقيدquot;.
من كتاب هايردال quot; حملة دجلة في البحث عن البدايةquot;.
هكذا هو الهور في عينيّ زائر غربي فكيف يكون بعيون أبنائه الذين شيدوا أولى الحضارات الإنسانية، متخذين من خيراته وسائل للحياة لا تتوافر في أماكن أخرى بسهولة. فما الأهوار؟
وأين افترشت موقعها في تلك الأرض؟ وكيف اختفت مثلما اختفت جزيرة اطلنطس الأسطورية؟
في جنوب العراق توجد مسطحات مائية شاسعة فيها جزر صغيرة عائمة، وبيوت ذهبية من القصب يسكنها أناس ورثوا الحضارة السومرية، فاحتفظوا بملامح وجوههم وطرق حياتهم، ومدن الماء التي تشكلت بوجود تلك الطبيعة مثلت عالما ساحرا لا يتوافر بهذه السعة في أي مكان في العالم فمساحة الأهوار حوالى 11500 كيلو متر مربع من الأراضي المغمورة بالماء بشكل غير دائم، و20 ألف كيلو متر مربع مغمورة بشكل دائم.
و كان العرب يسمون الأهوار البطائح، وقد ذكرت كتب اللغة والمعاجم أنها سميت بطائح لتبطح الماء فيها أي سيلانه، كما ورد أنها كانت مناطق واسعة بين واسط والبصرة، وكانت قرى متصلة، ذكرها اليعقوبي في كتاب البلدان فقال: quot;إن يوم البطحاء من أيام العرب المعروفة في الجاهلية منسوب إلى بطحاء ذي قارquot; أي أهوار الناصرية حيث وقعت الحرب بين كسرى وقبائل بكر بن وائل.
الرحالة
وجذبت الأهوار بطبيعتها الساحرة الرحالة الغربيين، فألفوا كتبا عنها، منها كتاب quot;حلقات المياه الرائعةquot; لكيفن ماكسويل، وquot;العودة إلى الأهوارquot; لكيفن يونج، وquot;عرب الأهوارquot; لويلفرد ثيسيجر، ولكن أكثر العلماء اهتماما بالاهوار وحضارتها القديمة هو عالم الآثار والمستكشف النرويجي ثور هايردال صاحب كتاب quot;حملة دجلة.. في البحث عن البدايةquot; الذي باشر مشروعه في معرفة طرق وصول أبناء حضارة الرافدين القديمة إلى العالم.
وأجرى هايردال تجربة صناعة القارب السومري القديم، وقام بإنشاء القارب من البردي المقطوع من وسط الهور مهد تلك الحضارة ولم يتخذ وسائل حديثة في تلك الصناعة، لكن شيخا من أبناء الهور ساعده في انتقاء أفضل أنواع البردي وهو الذي يقطع من شهر أغسطس/آب وبعد إتمام العملية أبحر بالقارب الذي اسماه quot;دجلةquot; من نهر دجلة إلى شط العرب ثم الخليج العربي وصولا إلى خليج عمان ثم الباكستان وبعدها عاد عن طريق بحر العرب إلى خليج عدن، لكن الوجود العسكري في المنطقة منع القارب السومري من إتمام رحلته التي أثبتت قدرة أبناء الأهوار على التواصل الحضاري مع العالم. وقد اعترض هايردال على منع القارب من مواصلة رحلته فوجه رسالة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة ذكر فيها تلك الرحلة، فقال: quot;لقد أثبتنا أن السكان القدماء لوادي الرافدين والهند ومصر كانوا قد بنوا حضاراتهم الممعنة في القدم بالاستفادة من الاتصالات المشتركة عن طريق المراكب البدائية المتاحة قبل خمسة آلاف عامquot;.
وقد كان هايردال يرى أن الحضارات القديمة كانت أكثر رقيا من عالم اليوم القائم على القتل والتدمير، وتحدث عن أبناء الأهوار في جنوب العراق بشكل مميز في كتابه quot;حملة دجلة في البحث عن البدايةquot; فقال: quot;لقد عشت مع أناس بدائيين في بولونيزيا واميركا وأفريقيا، ولكن عرب الأهوار ليسوا بدائيين بأي صورة من الصور، أنهم متحضرون ولكن بطريقة تختلف عنا، ليس لديهم تكنولوجيا التحكم عن بعد، لكنهم اختاروا أقصر طرق المتعة من مصادرها مباشرة، وقد أثبتت حضاراتهم أنها قابلة للحياة والاستمرار، فيما انهارت الحضارات الآشورية واليونانية والفارسية بعدما وصلت قمة ازدهارهاquot;.
وكان هايردال ناقما جدا من التوتر العسكري الذي يقتل الحضارات، فأحرق قارب دجلة مقابل شواطئ جيبوتي احتجاجا على منعه من إكمال رحلته بسبب الحروب التي تعرض حياة البشرية لخطر الفناء.
وفي العودة لحياة الأهوار نجد أن سكان تلك المناطق يحتاجون إلى القوارب للانتقال من منزل إلى آخر، لذا ازدهرت صناعة القوارب المختلفة وكان صناع القوارب يكتفون بمساكن بسيطة جدا هي عبارة عن أربعة أعمدة عليها غطاء فراش القصب يسمي الباريهquot; يقيهم من حر الشمس والأمطار.
وأخذت أنواع الزوارق التي يصنعها أبناء الأهوار تسميات عدة، منها quot;ماطور، ابليم، جليكةquot; وتطلق تلك الأسماء على زورق صغير يستعمله سكان الأهوار لصيد الطيور وهو يتسع للصياد مع بندقيته quot;البرنوquot; ويسير الزورق quot;بالغرافةquot; أي المجذاف الصغير. أما quot;المشحوفquot; فهو اكبر قليلا من الماطور يستخدمه سكان الأهوار لجلب الحشيش لحيواناتهم أو لتنقلاتهم العادية، ويسير بالمجاذيف العادية أو quot;المرديquot; وهو عمود طويل يعمل بطريقة الدفع في قاع الهور لتسيير المركب وتتكرر العملية بمساعدة قوة دفع الماء.
والنوع الثالث من الزوارق quot;البلمquot; وهو زورق كبير يستخدم لنقل البضائع أو السير لمسافات طويلة في الهور، وغالبا ما يتعاون شخصان لتسييره.
أما الكعدة فهي زورق كبير ينقل البضائع والركاب من الهور إلى المدينة ويتعاون على تسييره رجال عدة وأحيانا يربط به جهاز تشغيل لتسييره.
ولم تقتصر أعمال أبناء الهور على صناعة القوارب فقط، فقد كان صيد الطيور في مواسم الشتاء مصدرا مهما للرزق، إضافة إلى صيد الأسماك التي تعود أبناء الهور على الاكتفاء منها بغذائهم اليومي.
وفي أهوار ميسان كانت زراعة الشلب quot;الأرزquot; تشكل مصدرا غذائيا مهما فقد كانت الوجبة الأساسية لهم هي السمك مع الأرز العنبر أو quot;الطابكquot; الذي يشوى على شكل قالب من خبز الأرز أو السياح الذي يخبز بطريقة quot;الرقاقquot; الإماراتية.
طيور
أما طيور الهور فتصل إلى أكثر من 40 نوعا أجودها طيور الخضيري الذي يأتي مهاجرا من صقيع روسيا ليقضي شتاء دافئا في المنطقة إضافة إلى طيور quot;الحذافquot; وquot;الحرquot; وquot;الحسونquot; وquot;دجاج الماءquot; وquot;البطquot; وغيرها من الطيور الأخرى المهاجرة التي ألفت تلك الأماكن واتخذتها مشتى لها في هجرتها كل عام.
والأهوار هي المكان الوحيد الذي يعيش فيه quot;كليب الماء العراقيquot; وهو من أصناف الحيوانات النادرة التي لم تكن معروفة في العالم حتى تم اكتشافه عام 1956 في الأهوار.
وتمكن أبناء الهور من استغلال الطبيعة المحيطة بهم والتكيف معها إلى ابعد الحدود فقد كانت بيوتهم مبنية من القصب وتسمى quot;صريفةquot; إضافة إلى أنماط البناء السريع من القصب التي تكون لحماية الماشية أو للوقاية من الشمس فقط وتسمى quot;سوباطquot; وقد وصف هايردال معمار القصب بقوله quot;بيوت القصب بأناقتها التامة مدهشة. مساكن غاية في الجمال، وكل مسكن يشبه هيكلا كنسيا مقوسا ذا قبة ذهبية مهيبة، تنعكس صورتها على صفحة الماء.. وهذا هو أسلوب البناء السومري الخالص فالأقوام المثابرون الذين علموا أسلافنا فن الكتابة سكنوا في أكواخ مثل هذه، ففي مدنهم المعتادة بنوا مساكنهم من الطابوق المقاوم ولكنهم في الأهوار بنوها كليا من القصب، وقد خلدها الفن الواقعي السومري منذ خمسة آلاف عام على شكل حفريات على الحجر أو منقوشات على الأختام، وكذلك الأمر مع قواربهم، فهي تشبه تماما النماذج المصغرة المصنعة من الفضة أو المطلية بالقار التي عثر عليها مدفونة في المقابر السومرية، وقد أثبتت هذه المنجزات أنها متوائمة مع البيئة وكذلك مع الحاجات المحلية.
وبيئة الأهوار التي تناغمت مع أصوات عرب الأهوار quot;المعدانquot; وهي تشق الصمت بغناء ريفي عذب، لم تكن مجرد أماكن لسكن هؤلاء القوم، بل كانت وجها من وجوه الحضارة العراقية التي امتدت لآلاف السنين، فضلا عن كونها معلما سياحيا قلما يوجد نظير له، فتلك المسطحات المائية الساحرة امتدت على مساحات واسعة بين البصرة والناصرية والعمارة وكان قضاء الجبايش في الناصرية يسمى quot;فينسيا العراقquot;.
لكن هذا الجمال الساحر لحقته عملية تدمير منذ عام 1991.
وكشفت تقارير للأمم المتحدة عن كوارث بيئية في تلك المنطقة بسبب التغير الديموغرافي فيها، وقد جفف حوالى 20 ألف كيلو متر مربع من تلك الأهوار.
وتم بناء السدود على جانبي الأنهار الرئيسة التي تغذي الأهوار. ففي مدينة العمارة بنيت سدود على مجموعة من الأنهار هي نهر الوداية والعدل والكفاح والشرمخية ومسبح وهدام وأم جدى وأنجزت تلك العملية عام 1992 ونتج منها قطع المياه عن عشرات الروافد والجداول ما ضاعف من شح المياه وانقطاعها عن المساحات الشاسعة التي تقع بعد مدن الميمونة والسلام والعدل والمجر الكبير.
كما تم تحويل مجرى الفرات من موقع الفضلية شرق الناصرية إلى مجرى المصب العام بشكل يسحب مياه هور الحمار ويجففه، وقد كانت نتيجة تلك العملية أن تغير المجرى الطبيعي لنهر الفرات بين الناصرية والبصرة. كذلك تمت تجزئة الأهوار بعدد من سدود ليسهل تجفيفها، إضافة إلى عمليات أخرى جعلت من تلك البيئة الجميلة أرضا قاحلة، ونزح عدد من سكان الأهوار إلى إيران أو خرجوا من أراضيهم بحثا عن مصادر الرزق بعدما انقطعت عنهم مصادر المياه الضرورية للزراعة وتربية الحيوانات التي تعتمد على وفرة المياه، وقد شاعت بعض أنواع المنتجات الزراعية ومنها الأرز العنبر العراقي الذي لا يزرع في بلدان أخرى.
اليوم يتساءل الكثيرون، هل انطوت قصة الهور؟ وهل مات هذا الشاسع الذي احتوى أحلام السومريين قبل خمسة آلاف عام؟
لعل الإجابة تكون بالنفي فيعود الهور إلى أحضان العراق مثلما يعود أبناؤه من منافي الأرض.
تصوير علي الشيال
التعليقات