أحمد ولد سيدي من نواكشوط: عرفت موريتانيا في السنوات الأخيرة من القرن الماضي انتشارا واسعا لظاهرة أطفال الشوارع، وقد انتشرت الظاهرة في أولي فتراتها في الجنوب الموريتاني (كيهيدي سيلباي) بين أبناء الطبقة الزنجية التي مارس أبنائها الظاهرة تحت غطاء بات يعر محليا ب (آلمودات) وهي عبارة من اللغة البولارية وتعني (طلاب العلم) وقد اتسعت ممارسة الظاهرة في ظل التحضر الذي عرفته العاصمة نواكشوط حتى أصبحت تحمل عدة أوجه مختلفة، قد دفع الفقر وانفصال الأزواج والتسرب المدرسي بالكثير من الأطفال الموريتانيين إلي ممارستها لغرض العيش، وحسب الكثير من الدراسات التي أحيطت بها الظاهرة فان الكثير من هؤلاء يتحولون في نهاية المطاف إلي عصابات إجرام أو لصوص يمارسون السطو والسرقة في العاصمة نواكشوط.

التسول مصدر حياتي

سعيد طفل ابن ست سنوات يقف عند احدي إشارات المرور عندما تحبس السيارات والمارة باعطائها الضوء الأحمر، عندما يقف الجميع لإعطاء فرصة المرور لمن في الطرف الآخر من السيارات والمواطنين.
يمارس quot;سعيدquot; مهنة التسول في شوارع العاصمة الموريتانية نواكشوط ويقول quot;لإيلافquot; إنه يري أن التسول مهنة لا بأس بها بالنسبة له وأنها ستؤمن له حياته المعيشية.
ويضيف الطفل quot;سعيدquot; وهو ينظر يمنة ويسرة عله يجد من يمد له يدا بها صدقة تقي أهله شر الفقر وتوفر لهم لقمة عيش باتت صعبة المنال في ظل ظروف ظاهرها فقر وباطنها يستر أمورا أخري كثيرة ومتعددة، quot;أنا ابن أسرة فقيرة ليس لها من المال شيء وأبي يأمرني بأن أمارس التسول أنا وأخي الكبير، من أجل أن نساعده في تأمين الحياة لباقي أفراد الأسرة، ويقول سعيد أن دخله اليومي من التسول يناهز في بعض الأيام 500 أوقية أي ما يقارب الدولارين وهو دخل يقول سعيد متواضع لكنه يمكنني من مساعدة أبي في توفير العيش واستمرارية الحياةquot;.
ويضيف quot;سعيدquot; أنه لا يحب الدراسة ولا التعليم وأنه مشقوف بحب أبطال الأفلام العالميين مثل quot;جيمس بودquot; و quot;جاكي شانquot; وأبطال الرقص والعنف يقول سعيد الذين تعجني حركاتهم وقتالهم في الأفلام التي أشاهدها في التلفاز.

علي شفا الانحراف..

وغير بعيد من سعيد وعلي الطرف الآخر من الشارع يوجد طفلين آخرين هما quot;محمدquot; و quot;آمادوquot; محمد قال أنه لا يريد التحدث إلي الإعلام بين ما قال quot;آمادوquot; أنه لا يخشي بأسا من الإعلام غير أنه لا يرغب في أن تظهر صورته علي quot;التلفازquot; حسب قوله وأضاف أنا أمارس التسول بعدما أرغمتني الظروف المعيشية الصعبة التي أعانيها نتيجة الفقر المدقع الذي تعاني منه أسرة أهلي quot;آمادوquot; يفضل الرقص في الشوارع والاستماع إلي الموسيقي التي عادة ما تحدثها بعض السيارات التي تمر به وهو يمارس التسول علي الطريق.
واقع quot;آمادوquot; ينبئ بأنه ربما يكون من بين عشرات من الأطفال مارسوا التسول وساقتهم الأقدار إلي الانحراف في منتصف الطريق، ويقول آمادو أنه يكره الأشخاص الذين يمرون به ولم يستجيبوا لطلبه في دفع ثمن لتسوله ويضيف أحب في بعض الأحيان الانقضاض عليهم وانتزاع صدقة التسول في العنف.


جهود وطنية لا تزال دون المستوي..

علي الرغم من أن وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية في موريتانيا قامت مبكرا بعدة جهود وطنية من أجل تشخيص هذه الظاهرة، ومعرفة طريقة التعامل معها فإنها لم تحقق الكثير مما يمكن أن ينهي ظاهرة تسول الأطفال (آلمودات) بشكل نهائي حيث أشرفت على إنجاز دراسة في عام 2001 شملت مدينة نواكشوط العاصمة وبعض المدن الداخلية التي لوحظ حضور الظاهرة فيها بشكل كبير مثل quot;كيهيديquot; و quot;بوكيquot;، و quot;روصوquot; في الجنوب الموريتاني، ومحيطهم الريفي الذي يشكل خزانا لتصدير الظاهرة علي الطريقة الزنجية التي تري أن أطفال الشوارع أو quot;آلموداتquot; هم طلاب علم يحق لهم أن يحصلوا علي الصدقة من الجميع.


الدراسة التي قامت بها وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية غطت 120 طفلا من quot;الموداتquot; تقل أعمارهم عن سن السادسة عشرة و70 من آبائهم و25 من شيوخهم الذين يدرسون عليهم القرآن الكريم.
وقد توصلت الدراسة إلى أن أعمار quot;الموداتquot; المتسولين تتراوح مابين 6 إلى 16 سنة وأن 90% منهم يتكلمون quot;البولاريةquot;، بينما لا تعكس السمات العائلية لذويهم أي مميزات تختلف كثيرا عما هو شائع من سمات الأسرة الموريتانية المتوسطة، وكان الأبوان يعيشان معا في حال ثلثي المبحوثين، في حين لم يزد عدد الأيتام على 5%.
وأما عن ظروف آبائهم المهنية فان 37% منهم كانوا مزارعين و34% يتوزعون على بعض أعمال القطاع غير المصنف، وانحصر الآباء المنعمون منهم في نسبة 8% في حين كان خمسهم دون دخل محدد أو عاطلين عن العمل.

أسباب تقود إلي الانحراف..


ويقول الصحفي والباحث أحمد ولد الندي لإيلاف أن ظاهرة quot;آلموداتquot; تعود إلى العادات المتجذرة في الشق الزنجي من المجتمع الموريتاني، إذ يقوم التعليم الأصلي عندهم على تولي أحد المشائخ لتعليم الأطفال لكنه يلجأ إلى ظاهرة دفعهم للتسول ليتمكن من القيام عليهم وتوفير ظروف تمكنهم من الحصول على قوتهم اليومي، لكن مع تغيير المجتمع والهجرات المتتابعة التي شهدتها موريتانيا من الريف إلى المدن، واستفحال ظاهرة quot;أحياء الصفيحquot; وأحزمة الفقر المحيطة بالمدن، انتقلت الظاهرة من طورها الإيجابي أو على ndash;الأصح- المتفهم إلى طور مغاير، فاختلاف الظروف في المدينة، وانتشار العصابات الإجرامية مما جعل هؤلاء الأطفال عرضة لها.

كما زاد منها أيضا اختلاطها بظاهرة أطفال الشوارع فالكل يتسول، ولا فرق بين من quot;يجمعquot; المال لصالح مدرسه، ومن يجمعه لأن أمه في quot;لحظة ماquot; قررت التخلي عنه وتركه يواجه مصيره وحيدا.

إذن الظاهرة في أصلها كانت لأسباب موضوعية ترجع أساسا لرغبة المدرسين في الحصول على مال يعينهم في القيام على طلبتهم، خصوصا أن عددهم في بعض الأحيان يقارب المائة، وهو ما يجعل مهمة القيام عليه تستعصي إن لم تستحيل.
لكن التطور الذي شهده المجتمع أدى إلى انحراف المهمة، فانحصار quot;المحاظرquot; وانتشار أدعياء المشيخة فيها، وشيوع التسول وكثرة أطفال الشوارع كلها أسباب لخروج هذه الظاهرة عن حد المعقول، ووجود هذا العدد الكبير من المتسولين عند كل ملتقى طرق، داخل العاصمة نواكشوط.

ولعل مما يثبت أن quot;للتمدنquot; الدور الأبرز في ازدياد هذه الظاهرة أنه كلما ابتعدت عن العاصمة كلما انحسرت الظاهرة أو اختفت..
وعن إمكانية معالجتها يضيف ولد الندي أرى أن معالجتها تحتاج إلى quot;إرادةquot; صادقة لمعالجة هذه الظاهرة، خصوصا وأنها أضحت الآن تشكل quot;مدرسةquot; إجرامية تخرج الأجيال بعد الأجيال، ويورث السابق اللاحق، وهذا يشكل خطرا على المجتمع ويهدد أمنه واستقراره.
هذه الإرادة تتجه لتوفير تعليم لهؤلاء لدعم المحاظر التقليدية للقيام بدورها لمحاربة ظاهرة quot;الفساد الأخلاقيquot; للقضاء على أطفال الشوارع، هي جهود متعددة وجبهات مختلفة تحتاج إرادة وصادقة وصبرا لتؤتي أكلها ولتجنب المجتمع ويلات قد يتعرض لها في حال لم تعالج هذه الظاهرة الخطيرة، -أو على الأصح- لم يعالج انحرافها وتعاد لسكتها الحقيقية.
وعن كيف ينظر المجتمع إلي هذه الظاهرة يضيف المجتمع نظرته إلى الظاهرة كانت في الأصل إيجابية ومتفهمة للدوافع، لكن التطور والانحراف الذي طال هذه الظاهرة جعل نظرة المجتمع إليه تختلف، حتى أن quot;المصطلحquot; quot;آلموداتquot; والذي يعني في الأصل quot;التلميذquot; أصبح يرمز إلى الإجرام والتسول والنشل أكثر من معناه الأصلي.
نظرة المجتمع تغيرت نظرا لتغير الوظيفة التي يقوم بها هؤلاء، ونتيجة اختلاطهم بغيرهم في المهام، فمن يرى quot;آلموداتquot; اليوم في شوارع العاصمة لن يتمكن من التفريق بين quot;التلاميذquot; الحقيقيين، وبين أطفال الشوارع واللقطاء، وقد أساء التباس الصورة للتلاميذ كثيرا وغير الصورة التي كانت لهم في الذاكرة الجمعوية الموريتانية.