أصبحت القرصنة الإلكترونيَّة بمثابة quot;سوسquot; ينخر في عظام صناعة الموسيقى، مما أدَّى إلى إفلاس بعض شركات الإنتاج، وموت الكثير من الأصوات، وإختفاء عدد من الشعراء والملحنين والموزعين.
القاهرة: من فوق خشبة المسرح، أثناء الإحتفال بعيد القوات الجوِّيَّة المصريَّة بتاريخ 16 تشرين الأوَّل 2010، وجَّه الفنان المصري، محمد منير، نداءً إلى الرئيس مبارك، طالبه فيه بضرورة التدخل لمنع القرصنة الإلكترونيَّة على الأغاني، حمايةً لصناعة الموسيقى الَّتي تعاني من التدهور.
لم تأت إستغاثة منير بالرئيس إلاَّ بعد أنّْ تأكَّد من أنَّ القرصنة الإلكترونيَّة أصبحت بمثابة quot;سوسquot; ينخر في عظام صناعة الموسيقى، ويصر على إلتهام كل الإنتاج بلا رحمة أو هوادة، مما أدَّى إلى إفلاس المئات من شركات الإنتاج في أنحاء العالم العربي، وموت الآلاف من الأصوات، وإختفاء مثلهم من الشعراء والملحنين والموزعين، وإنضمام مئات الآلاف من العاملين في تلك الصناعة إلى طوابير البطالة، فضلاً عن وأد المئات من المواهب الَّتي كانت تسعى لترى إبداعاتها النور.
وحذَّرت quot;إيلافquot; من تنامي ظاهرة القرصنة الإلكترونيَّة وتأثيرها على صناعة الموسيقى من خلال مجموعة من التَّحقيقات الصحفيَّة، وأجمع الفنانون والمنتجون في التَّحقيق التالي على أنَّ القرصنة هي أخطر ما يواجه صناعة الموسيقى، وشدَّد على ضرورة التكاتف بين الجهات الرسميَّة في الدول العربيَّة من أجل القضاء عليها.
ووفقًا لإحصائيَّات الإتحاد الدولي للمصنَّفات الفنيَّة فإنَّ خسائر صناعة الموسيقى في العام 2009 بسبب القرصنة الإلكترونيَّة تقدر بـ97 مليار دولار، نصيب مصر منها 2 مليار دولار، ويأتي لبنان على رأس الدول العربيَّة في القرصنة على الإنتاج الموسيقي، حيث يتم السطو على حوالي 70% من إنتاجها، وتحتل مصر المركز الثاني، بمعدل 50% من إنتاجها، غير أنَّ خسائر الأخيرة أكبر، لأنَّها الأكبر عربيًّا من حيث عدد الشَّركات المنتجة، وأعداد المستهلكين في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من أنَّ وزير الثقافة، فاروق حسني، أصدر قرارًا، في أوائل شهر أكتوبر الماضي، يقضي بإلزام هيئة الرقابة على المصنَّفات الفنيَّة بضرورة إغلاق أي موقع إلكتروني ينشر أيَّة مصنَّفات مرئيَّة أو مسموعة بالمخالفة لأحكام قانون الملكيَّة الفكريَّة، إلاَّ أنَّ هذا القرار لم يأت ثماره بعد.
وحسبما يرى الفنانون فإنَّ القرصنة الإلكترونيَّة تسبَّبت في إصابة صناعة الموسيقى بالسكتة الدماغيَّة، وهي بمثابة جريمة منظَّمة تحتاج إلى تكاتف جميع الجهات المسؤولة في العالم العربي من أجل مكافحتها والقضاء عليها.
وتقول الفنانة، ميس حمدان، إنَّ الوضع صار كارثيًّا، موضحةً أنَّه بمجرد طرح الألبوم في الأسواق، وخلال دقائق يتم نشره على المواقع الإلكترونيَّة، ويصبح متاحًا للجميع في شتى أنحاء العالم ليتم تحميله ملايين المرَّات من دون مقابل، الأمر الذي يصيب الشَّركة المنتجة بخسائر ضخمة، ويعجِّزها عن مواصلة الإنتاج، وأشارت إلى أنَّ القرصنة كانت سببًا في تغيير الكثير من الشَّركات لنشاطها، وإستغناء غالبيَّتها عن الفنانين المتعاقدين معها، ولم يستطع الغالبية منهم على التعاقد مع شركات أخرى، وأضطروا للإنتاج لأنفسهم أو الجلوس في المنزل من دون عمل، فيما خرج آخرون من المجال نهائيًّا وافتتحوا مشاريع تجاريَّة مثل المقاهي، ولفتت إلى أنَّ المشكلة أنَّ الشَّركات وحدها لن تستطيع التَّصدي للقرصنة، مشدِّدةً على ضرورة وقوف الجهات الرسميَّة أيضًا في الخندق نفسه مع الفنانين والمنتجين.
ويؤكِّد الفنان، هيثم شاكر، أنَّ القرصنة الإلكترونيَّة تسبَّبت في تدهور صناعة الموسيقى، مشيرًا إلى أنَّها السبب وراء إتجاه الفنانين للإنتاج لأنفسهم، أو اللجوء للتمثيل في السينما أو الدراما كمحاولة منهم لعدم الخروج من المجال الفني تمامًا، وتقديم أغانٍ جديدة، وأبدى شاكر حزنة الشديد بسبب إختفاء الكثير من الفنانين الكبار عن السَّاحة بعد أنّْ قضت القرصنة الإلكترونيَّة على الإنتاج الموسيقي.
لم تتسبَّب القرصنة الإلكترونيَّة في الإضرار بالفنانين والمنتجين فقط، بل أضرَّت بالشعراء والملحنين والموزِّعين وأكشاك بيع شرائط الكاسيت الَّتي حوَّلت نشاطها لبيع السجائر، إضافة إلى استديوهات التسجيل الصوتي، وهكذا يرى الفنان، هشام عباس، أنَّ هناك أبعادًا أخرى للأزمة، ويضيف أنَّ الإنترنت أحدث طفرة في شتى مناحي الحياة، إلاَّ أنَّه أضرَّ بصناعة الموسيقى بنسبة تصل إلى 90%، وأضاف: quot;حسناً فعل وزير الثقافة بإصداره قرارًا بإغلاق المواقع الَّتي يثبت تورطها في السطو على الألبومات أو أي مصنَّف فني من دون حق، لكن الأزمة تحتاج إلى تعديل تشريعي وتنسيق بين العديد من الجهات الرسميَّة في مصر والدول العربيَّةquot;.
ويقول الفنان، مصطفى قمر، أنَّ عدد شركات الإنتاج الموسيقي في مصر منذ أوائل التسعينيات، بلغ حوالي الـ1430 شركة، ولكن إنخفض عددها الآن وأصبح يعد على أصابع اليد، موضحًا أنَّ ظاهرة القرصنة كانت سببًا في ظهور الأغاني quot;السينغلquot; وquot;الميني ألبومquot; كمحاولة من الفنانين للبقاء على الساحة، حيث أنَّ أغلبيتهم يضطر لإنتاج quot;السينغلquot; على نفقته بعد أنّْ أحجم المنتجون عن تقديم ألبومات جديدة إلاَّ في أضيق الحدود، وحذَّر من أنَّ استمرار تلك الظاهرة من دون رادع سيقضي على صناعة السينما والدراما أيضًا، ودعا إلى التَّعامل بحزم مع المواقع الَّتي تبث الأغاني أو الأفلام أو المسلسلات من دون الحصول على إذنٍ كتابيٍّ من الشَّركات المنتجة لها.
ولم يذهب المنتجون بعيدًا عما أكَّد عليه الفنانون، لكنهم يرون أنَّ رياح القرصنة الإلكترونيَّة عاصفة، ولديها إصرار على ألاَّ تبقي شيئًا من صناعة الموسيقى الَّتي يصل عمرها في مصر إلى أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن.
ويقول رئيس إتحاد المنتجين، محسن جابر، أنَّ الإنترنت كان سببًا مباشرًا في تدهور صناعة الموسيقى بنسبة 95%، وساهم في دفن الكثير من المواهب وتقاعد العديد من المطربين مبكرًا على الرغم من أنَّهم يمتلكون إمكانيَّات فنيَّة رائعة، وقادرون على العطاء حتَّى الممات، وأضاف أنَّ صوت المنتجين بح من أجل تدخل الحكومة لإنقاذ الصناعة من السوس الذي بدأ ينخر في عظامها منذ العام 2000، ولكن من دون مجيب أو مغيث، حتَّى وصل بنا الحال إلى إغلاق نحو 70% من شركات الإنتاج الموسيقي وتغيير نشاطها، وأضاف أنَّ الحكومة أدركت أخيرًا الخطر الذي يهدِّد صناعة عريقة في مصر، وتفهَّمت مخاوفنا نحن المنتجين وبدأت تتجاوب معنا، حيث أصدر الفنان، فاروق حسني، وزير الثقافة قرارًا بإغلاق المواقع الإلكترونيَّة الَّتي تسطو على المصنَّفات الفنيَّة أو توفق أوضاعها، وذلك بالتنسيق مع عدَّة وزارات هي الداخليَّة، والإتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والثقافة، كما سيتم تحصيل رسوم على إستغلال المصنَّفات الفنيَّة في الفنادق والأماكن السياحيَّة، وهي جهود جيِّدة ستعمل على إنقاذ الصناعة على الرغم من أنَّها جاءت متأخرة جدًّا.
لكن المفاجأة الصادمة، أنَّ هناك منظمات حقوقيَّة ترى أنَّ قرار وزير الثقافة القاضي بإغلاق تلك المواقع، يمثل إعتداءً على حرية الرأي والتَّعبير، ووصل الأمر إلى حد إقامة مؤسسة quot;حريَّة الفكر والتَّعبيرquot; دعوى قضائيَّة أمام محكمة القضاء الإداري في القاهرة حملت رقم 47853 لسنة 64 للطعن على القرار، ووصفت القرار بأنَّه quot;يشكِّل مخالفةً للعديد من الاتفاقيَّات والمواثيق الدوليَّة أهمها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة، وخصوصًا الفقرة الثانية من المادة 19 الَّتي تكفل لكل إنسان الحق في التماس مختلف المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأيَّة وسيلة أخرى يختارها، وكذلك الفقرة الأولى من المادة 9 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الَّتي تكفل حق الأفراد في تلقي المعلومات من دون إحالة تنظيم ممارسة هذا الحق إلى القوانين المحليَّة، وقالت المؤسسة إنَّ القرار مخالف لقانون حماية الملكيَّة الفكريَّة المصري رقم 82 لسنة 2002 الذي حدَّد في الكتاب الثالث منه الإجراءات والقواعد المتَّبعة في شأن حماية الملكيَّة الفكريَّة، مشيرةً إلى أنَّه ليس من بين هذه الإجراءات قرارًا واحدًا يقضي بإغلاق مواقع الإنترنت أو غيرها من وسائل إتاحة المعلومات، وأكَّدت أنَّ مستخدمي الإنترنت عندما يقومون بتحميل أي مصنَّف سواء كان كتابًا أو أغنية أو فيلمًا سينمائيًّا فإنَّهم لا يستهدفون من ذلك الربح التِّجاري عن طريق طبع نسخ منه وبيعها، وإنَّما يكون ذلك بغرض الاستخدام الشخصي فقط. وفي حالة صدور حكم قضائي لصالح مؤسَّسة حريَّة الفكر والتَّعبير، سيكون على المنتجين والفنانين العودة إلى نقطة الصفر في حربهم مع القرصنة الإلكترونيَّة.
التعليقات