تقرأ رواية "إسطنبول إلى الأبد" تاريخ إسطنبول القديم والحديث وإرثها المتعدد على خلفية مذابح الأرمن ومحنة الأكراد، وتكشف التناقضات التي تعبر المجتمع التركي وتصور كيف ينزلق شعبٌ كامل في اتجاه التعصّب القومي.

إيلاف من بيروت: في روايته الجديدة "إسطنبول إلى الأبد"، يقدم المخرج والروائي الفرنسي صامويل أوبان نشيد احتفاء بهذه المدينة التي عاش فيها بين عامي 2013 و2017، وفي الوقت نفسه، قراءة شخصية بصيرة للحوادث العنيفة التي عايشها في تركيا خلال تلك الفترة.

أشخاص متباعدة متقاربة
بطل رواية "إسطنبول إلى الأبد" Istanbul à jamais (المكون من 272 صفحة، منشورات أكت سود، 21 يورو)، سيمون، صورة مطابقة لأوبان. فهو مستقرّ في إسطنبول، نراه يوثّق بعدسته الحياة حوله وخصوصًا المدينة التي يعيش فيها ويعشقها: "كيف يُعقَل أن نكون مسكونين إلى هذا الحد بمدينة لم نعش فيها سوى أربع سنوات ولا يربطنا بها أي نسب عائلي؟. يبحث من أجل معرفة لماذا تمارس إسطنبول إلى هذا الحدّ تأثيرًا عليه، ولا يجد.

المخرج والروائي الفرنسي صامويل أوبان

يبحث ويجد في النهاية التالي: الانفتاح الذهني. وهذه مفارقة في مجتمع معجون بالشعور القومي، تحرّكه الدُغماتيّة الدينية. لكن رياح الحرّية تهبّ سرًّا داخله. أولئك الذين لا يسمحون لأنفسهم بالانغلاق داخل أخلاقية ضيّقة يُظهِرون حرية فكرية أكثر حيوية ممّا في الغرب".

إلى سيمون، لدينا زوجته كلير وابنه أناتول، ولدينا أنوش الفرنسية من أصول أرمنية التي أتت إلى تركيا لتحضير أطروحة دكتوراه في تاريخ الفن حول المهندس الأرمني ميمار سينان الذي صمّم مساجد إسطنبول. تتزوّج هذه من فرحات، المحامي الكردي الذي تحوّل، بعد اعتصامات منتزه "ميدان تقسيم" في عام 2013، إلى داعية لحقوق الإنسان والأقليات في وطنه. ولدينا طلاب سيمون الملتزمون سياسيًا، يتابعون تعليمه وإرشاداته داخل محترفه من أجل تصوير واقع تركيا اليوم، وفي مقدّمهم زينب المحجَّبة التي تكتشف أن جدّتها أرمنية الأصل فتقرر إنجاز فيلم وثائقي عنها، على الرغم من حساسيّة هذا الموضوع في مجتمعها المحافظ.

سرد التحولات
تقترب زينب من أنوش، على الرغم من اختلاف نظرة كلّ منهما إلى ماضي تركيا وحاضرها. تقارُب لا يخلو من مواجهات كلامية حادّة. لكن في الليلة التي تقع خلالها محاولات الانقلاب ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2016، تختفي أنوش، فيطلب فرحات من سيمون مرافقته للبحث عنها في شوارع إسطنبول. وفي أثناء هذا البحث، يتبيّن لهما أن زينب توارت هي الأخرى عن الأنظار.

القصة التي يسردها أوبان في روايته نتلقّاها من وجهة نظر سيمون (بصيغة المجهول)، ومن وجهة نظر أنوش (بصيغة المتكلّم)، وهذا يفسّر حيويتها وترسّخها داخل واقع اجتماعي وسياسي معقّد ومتغيِّر، وما يمنحها أيضًا طابع الفيلم الوثائقي، نظرًا إلى التصاق تسلسل الحوادث والأوضاع المسرودة فيها بالواقع. في هذا السياق، تنقلنا عملية السرد الفاتنة إلى داخل إسطنبول وتجعلنا نتآلف مع صخبها وغليانها بالحياة وتعدّديتها الثقافية، فنتذوّق مناظرها، نكهاتها، موسيقاها، أنوارها، أجواء مقاهيها وأحيائها... باختصار كل ما يجعل منها مدينة فريدة من نوعها.

وفي الوقت نفسه، تعرّي عملية السرد التحولات التعيسة التي ستشهدها هذه المدينة بعد محاولة الانقلاب، من طريق مراقبة سيمون يومًا بعد يوم حوله هستيريا التوقيفات التعسّفية والقمع الأعمى وتكميم الصحافيين ومصادرة الحرّيات على يد حكومة أردوغان الاستبدادية، من جهة، وتفجيرات "داعش" الانتحارية، من جهة أخرى.

تاريخ قديم حديث
تكمن قيمة هذه الرواية في دمجها العناصر التاريخية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي يستحضرها الراوي داخل نصٍّ مكتوب بلغة شعرية صورية، وفي جعلنا، بسرده الساحر، نتنقّل في إسطنبول كما لو أننا داخلها، فنعي الوضع المأساوي لتركيا عمومًا اليوم بمعايشتنا الحوادث المتعاقبة التي سمحت لأردوغان بممارسة استبداده من دون أن يفقد دعم جزءٍ كبير من الشعب التركي.

كما تكمن قيمة الرواية في قراءتها تاريخ إسطنبول القديم والحديث وإرثها المتعدد على خلفية مذابح الأرمن ومحنة الأكراد المزمنة في تركيا، وفي كشفها التناقضات التي تعبر المجتمع التركي وتصويرها كيف ينزلق شعبٌ بكامله في اتجاه التعصّب القومي.

وتكمن قيمة الرواية أخيرًا في تعريف قارئها بأعمال فنانين وكتّاب أتراك كبار، مثل المصوّر الفوتوغرافي آرا غولِر والمهندس ميمار سينان والروائي أورهان باموك والرسام دفريم إربيل.

في مكان، يحثّ سيمون طلاب محترفه على "المحفاظة على غموض الواقع وتعقيده (...) والعمل أكثر على المحسوس منه على البرهنة" في أفلامهم. وهذا ما يفعله أوبان في "اسطنبول إلى الأبد" وما يفسّر نجاحه في تقاسُم حبّه معنا لمدينة تتجاوزه، مدينة "معلّقة بين شرقٍ وغرب، ساحرة في تناقضاتها، متألّقة في خلودها".