إيلاف من بيروت: لم يُعرف أن عبد السلام جلود، الرجل الثاني في جماهيرية ليبيا، انقلب على العقيد معمر القذافي. فالأخبار المتواترة عن علاقة الرجلين لم تتجاوز قصص التباين في الرأي والموقف ثم المعارضة الصامتة ومحاولات الإصلاح تحت قيادة القذافي في النصف الأول من التسعينيات. فما قصة الانقلاب التي توثقها "مذكرات عبد السلام أحمد جلود - الملحمة" (479 صفحة، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 18 دولارًا)؟

تحطيم صورة القذافي

يقول حسان الزين في "إندبندنت عربية" إن قصة الانقلاب تبدأ بشكل خفي من الكلمة الأولى في المذكرات، إلا أن انكشافها حصل خلال ما يسميه جلود، والقذافي طبعاً، "الثورة". يروي جلود: "في هذه الليلة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قاريونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمر تخاذل في هذه اللحظة وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر (...) في ما بعد - في أواخر الثمانينيات - أدلى الأخ عبد المنعم الهوني بتصريح، من القاهرة حيث كان يعيش، مذكراً بهذه الحادثة. وحين استمع الأخ معمر إلى تصريحه، لم ينكر، وقال: فعلاً ذهبت إلى غرفتي ونمت، وقال في معرض تبرير هذا التخاذل: أنا قائد الأوركسترا، ومهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة، وبعد ذلك تنتهي مهمتي".

يضيف: "قبل أيام قليلة من الثورة، كنت قد ذهبت صحبة الأخ إبراهيم أبجاد لاستطلاع منزل مذيع متميز في الإذاعة اسمه محمد المطاطي، لذلك ذهبت صباح يوم الثورة إلى منزله ومعي قوة عسكرية وقمنا بإحضاره إلى دار الإذاعة، ثم ربطنا الاتصال مع بنغازي لتمكين الأخ معمر القذافي من إذاعة البيان الأول للثورة. بيد أن إذاعة البيان تأخرت، ولذا سيطر علينا الخوف، وبعد ذلك علمنا أن الأخ معمر ظل في غرفته ولم يتوجه إلى دار الإذاعة من أجل إذاعة البيان الأول، لأنه كان يريد التأكد من أن الثورة انتصرت وسيطرت سيطرة تامة. في هذا الوقت، كنا نعتقد أن الإخوة لم يتمكنوا من السيطرة على مدينة بنغازي والبيضاء وعلى محطة الإذاعة، فانتابنا القلق الشديد. وبعد ذلك علمنا أن القوات، التي تحركت من مدينة درنة إلى مدينة البيضاء قد طلبت من قوة من الجنود بقيادة أحد الضباط تنفيذ مهمة الاستيلاء على الإذاعة في البيضاء. ولكن المجموعة المكلفة ضلت الطريق في البداية، بينما كانت بنغازي تنتظر الربط الإذاعي ليذاع البيان في آن واحد من طرابلس وبنغازي والبيضاء. وقد صاغ البيان الأخ معمر، الذي كان موجوداً في بنغازي، وجعله عاماً، وهدف إلى إعلام الشعب الليبي بقيام الثورة وانتصارها للشعب والعالم، وليطمئن العالم بأن الثورة عمل داخلي يخص ليبيا والليبيين، وأن الثورة تحترم الاتفاقيات الدولية".

الزاهد الملاك المخادع

بحسب الزين، لا يتردد جلود في تحطيم صورة القذافي بوصفه قائداً لـ"الثورة". فالطاغية من البداية مخادع، وليس ثورياً صادقاً. لكن هذا الوضوح في الرؤية متأخر. ففي تلك الأثناء، أيام الشراكة في الثورة والحكم، لم يتوقف جلود عند تلك الأعمال المريبة، بل أهملها ولم يأخذها على محمل الجد أو يفسرها. فلم يرتَب، هو ورفاقه، من القذافي. وها هو جلود بعد نحو خمسة عقود يتذكر: "رفض الأخ معمر القذافي تعيينه على رأس مجلس قيادة الثورة، كما رفض قرار ترقيته إلى رتبة عقيد. وهكذا بدأ معمر في وقت مبكر رحلة الخبث والخداع، فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة، ورجلاً سلطوياً من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة".

يضيف الوين أنه لعل ما جعل جلود يسهو عن تلك الأعمال الخطيرة للقذافي هو أن جمال عبد الناصر "كان يتصل بنا في مجلس قيادة الثورة، ويطالبنا بإعلان معمر القذافي رئيساً للمجلس، وكان يقول لنا صراحة: إذا لم تعلنوا هذا، فسوف يكون هناك خطر على الثورة، وقد تتعرض للسرقة". لهذا، يقول جلود: "قررنا، أخيراً تحت ضغط عبد الناصر، إعلان أن معمر القذافي هو رئيس مجلس قيادة الثورة وترقيته إلى رتبة عقيد، وكتبت بنفسي نص خبر الترقية وتعيينه رئيساً لمجلس قيادة الثورة في 8 سبتمبر 1969، ثم سلمت النص إلى الإذاعة".

لا يسأل جلود لماذا ضغط عبد الناصر. وهو لا يفعل ذلك ليس لتبرئة مَن يعتبره رمز العروبة والأمة على الأقل من شبهة المخدوع بالقذافي فحسب، "بل لأنه بات يرى القذافي طاغية ومخادعاً ولا يتردد في ما يدعم ذلك"، كما يقول الزين.

ويتذكر جلود أيضاً: "في الأسابيع الأولى للثورة، كنا نمارس مهماتنا من مبنى وكالة الأنباء الليبية والإذاعة كذلك. في هذا الوقت، بدأ بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يمارس ضغوطاً من أجل الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وكان الأخ معمر يقاوم هذه الضغوط مُعللاً الأمر بشتى الأسباب، حتى قال صراحة ذات يوم: "من مصلحة الثورة ألا نعلن الآن عن أسماء أعضاء المجلس"، لكن لم يكن أحدنا مقتنعاً بكلام معمر. وفي حين كنت في زيارة سريعة لفرنسا، دخل الأخ معمر إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة، فبادر أعضاء المجلس إلى الإعلان عن الأسماء... وكان هذا بمبادرة من إمحمد المقريف".

ويتذكر جلود: "في أواخر الثمانينيات، كنت أنا ومعمر في منطقة جهنم التي تقع جنوب شرقي مدينة سرت، وقد عُرفت بهذا الاسم لارتفاع درجة حرارتها في فصل الصيف. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، ونستعيد ذكريات الماضي، جاء وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وأمنا معمر، وكنت خلفه قليلاً، فلاحظت أنه لم يسجد بشكل صحيح، فقلت له: "اسجد صح يا رجل"، لكنه لم يُعر طلبي أي اهتمام. وبعد الصلاة قال لي: "أنا لا أريد أن أفقص لأحد، حتى لربي، أي إنني لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي".

القذافي يلوّح للجماهير ومعه عبد السلام جلود في طرابلس الغرب في يونيو 1975

خلافات شخصية

يقول الزين: "في حادثة تشير إلى علاقته الشخصية بالقذافي، وهي لا تنفصل عن رسمه ملامح شخصية الرجل الأول وعرضه أساليبه في الحكم المفسد، يقول جلود الذي يحرص على تصوير نفسه في موقع الثوري والنقي والشعبي والصادق ونقيض القذافي: ’في مطلع الثمانينيات، وحين بدأت بوادر الخلافات مع الأخ معمر، أخذ معمر يشعر بالضيق وربما الغيرة من وجودي وسط الناس، وكان يقول لي: يا عبد السلام، خلينا نبني لك استراحة خاصة على شاطئ البحر في أي مكان ترغب فيه، فرفضت الفكرة من أساسها، لأنني كنت أدرك أنه يريد ضرب صدقيتي، ولأن كان لمعظم الضباط الأحرار والوزراء والقيادات الشعبية وقيادات اللجان الثورية إما استراحات خاصة، وإما كانوا يقيمون في المدن السياحية‘".

بعد ذلك، تتراجع الإشارات المماثلة إلى القذافي "الماكر" وشخصيته "الخبيثة"، ليحضر "الطاغية" في السرد فحسب. والبطل في سرد مذكرات جلود هو جلود نفسه، كما يقول الزين، "حتى أنه يروي وقائع يبدو فيها صاحب القرار ولا رجل أول فوقه. في حين كان رئيساً للوزراء لكنه انشغل عن مهماته في بلده لمواجهة المؤامرة التي تُحاك ضد سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وفي هذه الأثناء، يحضر القذافي بوصفه صديقاً وشريكاً أكثر منه زعيماً أو رئيساً".

لا يتوقف جلود في مذكراته عن تعرية القذافي وشخصيته وفضح أساليبه في تشييد سلطته معتمداً التجهيل والإفقار والقمع. فالقذافي في مذكرات جلود هو "الطاغية" الذي منع بناء الدولة، وهو مَن احتقر المجتمع وفتته وسلط الفاسدين والسيئين عليه، وهو مَن زرع الشك بين الناس ومَن أفقدهم الثقة بأنفسهم وبالآخرين، وهو مَن حرص على منع اجتماع الطلاب وتنظيم العمال، إذ يعتبر هؤلاء أعداءه وخطراً عليه.

رجل الدين الشيعي اللبناني الإمام موسى الصدر الذي قتله القذافي

قضية موسى الصدر

يتهم جلود الطاغية بقتل الإمام موسى الصدر. يتذكر: "خلال احتفالات الفاتح من سبتمبر (أيلول) كل عام، يحضر العديد من الوفود الرسمية والحزبية والشخصيات المرموقة. في كل عام، وقبيل بدء الاحتفالات بأسابيع، يجتمع معمر بمدير المراسم وكذلك بمسؤول العلاقات مع الأحزاب والمنظمات في العالم أحمد الشحادتي، ويبلغهما أسماء الشخصيات التي يرغب في حضورها. في احتفالات الفاتح من سبتمبر 1978، كان الإمام موسى الصدر من بين الشخصيات التي دعاها القذافي. وفي الواقع، لم أكن أعرف أن القذافي دعا الصدر لزيارة ليبيا، إلا بعد أن أعلنت وكالات الأنباء اختفاءه. ما إن سمعت بالنبأ، حتى اتصلت هاتفياً بأحمد رمضان مدير مكتب القذافي وطلبت منه أن يوصلني هاتفياً بالأخ معمر لأتحدث معه، وكنت في حالة غضب شديد. قلت له: "ما هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها؟ هل من المعقول أن تدعو شخصاً وهو في ضيافتك وفي بيتك، باعتبار ليبيا هي بيتنا الكبير، ثم ترتكب هذه الجريمة؟ هذا ليس من الشهامة والمروءة والرجولة. إنه عمل خسيس وغير أخلاقي ومدمر"، فقال لي بغضب: "أنت تتهمني بقتل موسى الصدر؟ برا دور عليه (اذهب وابحث عنه) أنا لا أعرف عنه أي شيء"، ثم أغلق سماعة الهاتف في وجهي. وهذه الواقعة ذكرها أحمد رمضان عند التحقيق معه بعد سقوط النظام.

يضيف: "ثم اتصلت بمدير الأمن الداخلي العقيد محمد الغززالي، وقال لي: "أنا لا علم لدي بهذه القصة. ما أعلمه هو ما تقوله وكالات الأنباء"، ثم اتصلت بأحمد خطاب، وهو مسؤول الأمن في صالة كبار الزوار في المطار، وقلت له غاضباً: "عليكم أن تخرجوا لي الإمام موسى الصدر من تحت الأرض وإلا فسوف أعدمكم جميعاً"، وهذا ما قاله خطاب في صفحته على "فيسبوك". وبعد ذلك، علمت أن القذافي طلب من أجهزة الأمن أن تختار شخصاً بحجم وطول الإمام الصدر، ليتقمص شخصيته ويلبس ملابسه ليغادر إلى روما. وبالفعل رشحت له أحد الضباط وهو برتبة عقيد في الأمن الداخلي اسمه إمحمد علي المبروك الرحيبي. وفي هذا السياق، أذكر أن الأخ معمر، خلال لقاءاتي معه، كان يقول لي دائماً إنه يرفض ويعارض بشدة أن تتولى شخصية شيعية إيرانية زعامة الشيعة العرب في لبنان أو العراق، وكان يقول: "الإمام الصدر هذا إيراني، وإنه مدسوس في الطائفة الشيعية، وإن قيادة الشيعة في العالم العربي يجب أن تكون قيادة عربية".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إندبندنت عربية"