واظبت على مُطالعة الكتب منذ سنين خلت، أقرأ ما يزيد عن ستّين كتاباً سنويّاً، وبشغف لبعضها، وبمَلَل من بعضها الآخر، ولكن آخر روايات الكاتب الأديب "راضي دخيل شحادة"، التي حملت اسم "راس النبع" تشد القارئ إليها وإلى أحداثها.

تلقَّفتُ رواية ابن مدينة المغار الجليليّة الوادعة، مختلَطَة الطّوائف الفلسطينيّة الثّلاث، دروزا ومسلمين ومسيحيّين، ورحتُ أُداعب صفحاتها، فإذا بها كَكاميرا "دِجِتَاليتْ" دقيقة "الپِكْسِلْ" تعكسُ شخصَ "راضي شحادة" وما يراه من صراع بين النَّزعة القومية والأُمميّة داخل المجتمع الفلسطيني داخل حدود الــ48، فهو يصف بدقّة واقع الشّعب الفلسطيني كيف عاش قبل الاحتلال وبعده.

من معرفتي السَّابقة بالأديب "راضي شحادة"، فقد كَتَب بِصِدْق جوارحِهِ كلَّ ما عايشهُ أبناء الطَّائفة الدُّرزيّة، حيث جاورهم وعاش معهم في خضمّ اختلاطٍ متقاربٍ أحياناً، ومتباعدٍ أحياناً أخرى، في النَّسيج الاجتماعي المغاري الفلسطيني.

يكتب "راضي" بتفاصيل دقيقة جدّاً، وكأنَّما هو يمسك بمشرط جرّاح، فَيجوب بين أعصاب جسم المجتمع الفلسطيني وما يعانيه من محاولات ترويض ومحو هُويَّة، وبين ما تعانيه المقاومة، بدون أنْ يمسّ بأذى مشاعرَ أيٍّ من بلدة "راس النَّبع".

يُبدع "راضي" في إخراج ما في الصّدور لدى كثيرين من أبناء الطَّائفة الدُّرزيّة، ورفْضهم التَّجنيد في صفوف جيش إسرائيل، واصفاً ذلك بدقّة روائيّة متناهية وبشكل محايد، دون إيذاء أي شخص، معتمداً على ما رأته عيناه، وما سمع وما عايشه في سنيّ حياته.

يتألق الكاتب بوصفه الصّراع الكامن داخل الطّائفة الدّرزية بين الوطني منها، وبين شيوخ الدّين، وبين من انصهروا في الدَّولة ومؤسّساتها، رافضين مواجهة المخرز بالكفّ الـمُجرَّدة. كذلك فإنّه يتطرّق وبِصِدقٍ الى وصف المجتمع الدُّرْزي الـمُحافظ، وسُلطة مشايخ الطّائفة، وصراع طبقة شباب التَّحرُّر الفكري مع الدّين، وخاصة النّساء منهم .

يكرِّس كاتبنا ويركّز بُؤرة عدستِه على الكثير من أسماء النَّباتات والأشجار والعصافير والطّبيعة، فكأنّما هو يرسم بريشة رسّام بارع شروقَ الشّمس وغروبها، فتراه يعشق الطّبيعة، ويعطيها اهتماماً في هذه الرّواية وبشكل رائع، فيظهر جليّاً للقارئ حبّ الكاتب وعشقه للطّبيعة، وظلال أشجارها، وحفيف أوراقها مع زقزقة عصافيرها، فيبدو ذلك على شكل قصيدة غزل في حبّ الوطن وجماله.

إنها ضروريّة لنا، ولكلّ مَنزلٍ؛ واقتناء هذه الرّواية واجب وطنيّ تثقيقي، لما فيها من تسليط الضَّوء على معاناة الشَّعب الفلسطيني في "إسرائيل"، فهذه الرّواية تُبرِز دور الأهل في تربية جيل واع ومثقّف .
إنها تأخذ القارِئ وتُؤرجِحه على أرجوحة ليّنة طويلة الأشواط، تأخذنا إلى الماضي البعيد، وتقرّبنا إلى الحاضر بأسلوب مَاتِع جدّاً، وتسلِّط الضَّوء على لوحاتٍ جميلة فتبدو كأنها مشاهد مسرحيّة اجتهد "راضي" في إخراجها إخراجاً غايةً في الرّوعة.
صحيح أنها رواية ضخمة، فهي تقع في ٥٨٠ صفحة بتنسيق وتنضيد جميل مشوق، ولكنّني أشهد أنّني لم أستطع أن أتركها من بين يديّ الى حين انتهيتُ من قراءتها.