في كتابه الأخير "في طائر التمّ: حكايات جنى الخطا والأيام"، لا يكتب فهمي جدعان سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، ولا يقدم أطروحة فكرية مكتملة. هو يخطّ تأملًا وجدانيًا فلسفيًا، يعيد فيه النظر في معاني الكينونة والزمن والخذلان، ويطرح الموقف الأخلاقي خارج منطق التسويغ أو الادعاء.

هذا الكتاب يقترب من "أغنية التمّ" الأخيرة، شهادة متزنة لمفكر انسحب بهدوء من ضجيج الساحة دون أن ينهزم داخليًا. يمكن النظر إلى النص على أنه "قصيدة العمر"، لا تطمح إلى المجد، بل تتساءل بهدوء: كيف نحافظ على الصدق حين تتآكل الشعارات وتغدو القيم خيارًا فرديًا لا التزامًا جماعيًا؟

اختيار العنوان، طائر التمّ، بما يحيل إليه من رمز للنهاية الهادئة، يثير مفارقة رمزية لافتة؛ إذ ينسبه المؤلف إلى بودلير، في حين أن الطائر الذي يظهر في قصيدة بودلير المعروفة بـL’Albatros هو "القطرس"، لا "طائر التمّ".

جدعان لا يكتب سيرة اعتراف، إنما يوثّق انتقاله من "المثقف المنخرط" إلى "المتأمل المستقل". لا يستعرض إنجازاته، ولا يلوّح بالمظلومية. يراجع مساره بهدوء: من النخب المعزولة إلى الأنظمة المغلقة مرورًا بالحركات الدينية واليسار المأزوم. يظل وفيًا لقناعة واحدة: أن الأخلاق تنبع من الفكرة، لا تُفرض عليها.

في القسم الثاني من الكتاب، يفتح "دفاتر الجيل"، جيل النهضة الذي خرج مثقلًا بالخسائر. يقرأ الماضي بوعي صارم، وينتقد اختزال الأخلاق في المظهر، واستلاب القيم باسم القداسة، ويذكّر بأن الاستلاب الأخطر يبدأ حين تتحول النخبة من كونها صوت مساءلة إلى أداة تسويغ. في هذا السياق، يُفهم الاستقلال بوصفه رفضًا صامتًا لكل ما هو مبتذل وسائد.

يتجاوز نقد جدعان الجيل إلى اليومي والمعيشي. يكتب جدعان عن الجامعة، والمجتمع، واللغة، بوصفها فضاءات لاختبار أخلاقي. يقول: "أنا لم أكن صاحب مشروع"، رافضًا الدخول في سباق الشعارات أو الانخداع بوهم الإنجاز. ما يحرص عليه هو الحفاظ على صوت حرّ، لا يستنسخ تراثًا، ولا يلهث خلف حداثة زائفة.

هذا الصوت لا يطلب التصفيق، ولا يعلن بيانًا. إنه يبحث عن النجاة الهادئة: أن تظل وفيًا لما آمنت به، لا لما رُوّج لك.

ومن هنا تتكرر في النص ثلاثية جدعان: النزاهة، والكرامة، والعفة، بوصفها مبادئ داخلية تحفظ تماسك الذات.

الكتاب تجربة فريدة، لا تنتمي إلى نمط السيرة الذاتية الخالصة، ولا إلى التنظير الأكاديمي الصرف. إنه نص سردي تأملي يجمع بين الحكي والتفكير. ومع ذلك، لا يخلو من التحدي: اللغة التي كُتب بها مكثفة، مشبعة بالإحالات والمفاهيم، ما يجعله نصًا موجهًا لقارئ متمرس. حتى اللحظات الوجدانية تمر عبر عدسة تحليلية تتطلب تأملًا دقيقًا. من هو القارئ المفترض إذن: الباحث عن سيرة ذاتية؟ أم المتتبع للفكرة وهي تتشكل ضمن بناء سردي؟

في القسم الأخير، تتضح ملامح موقف جدعان من التراث والحداثة. لا يرى في أيّ منهما خلاصًا، فالأول يدور في حلقة التكرار، والثاني تحوّل إلى منظومة تستهلك الإنسان. يرفض شكلين من التطرّف: تديّنًا مؤدلجًا يصادر الوعي، وفردانية استهلاكية تنزع الأخلاق عن الحرية. وفي هذا المأزق، يتمسك بفكرة "الفكر الحرّ" لا بوصفها بديلًا سلطويًا، وإنما استجابة نزيهة لصوت داخلي لا يسعى إلى التسويغ.

وهكذا، يمنحنا جدعان درسًا أخيرًا: الحرية لا تحتاج إلى تبرير حين تُعاش بصدق، والفكر الأصيل لا ينتظر التصفيق، لأنه يترك أثره بصمت بلا ادعاء.