اقتلوا صاحب "ويكيليكس".. اقتلوا الطائر البابلي "أنزو"

ألواح القدر أميركية وليست عراقية
غريب هو الخبر الذي سمعته قبل أيام، ففي خضم الفوضى التي أحدثتها تسريبات quot;ويكليكيسquot; دعا مستشار رئيس وزراء كندا لاغتيال مؤسس الموقع وترافق ذلك مع دعوات أميركية لتجريمه وأخرى أوربية لاعتقاله. مرد استغرابي عائد إلى أن ردود الأفعال هذه ربما quot;فضحتquot; مقدار الهلع الذي سببه ستيفن أساتج في العالم الغربي بسبب كشفه عن وثائق تبدو وكأنها quot;ألواح قدرquot; شبيهة بتلك التي ترد في أساطير العراقيين القدامى ومن خلالها يحتفظ الآلهة الكبار بأسرار تمشية الوجود والتحكم بنواميس الطبيعة ومصائر الأشياء في الكون.
في قضية quot;ويكليكسquot; كان الأمر مشابها ففي ليلة وضحاها استولى الاسترالي جوليان اسانج على وثائق خطيرة تهم العالم أجمع، وثائق تبدو وكأنها المدبرة لشؤون الكون والمتحكمة بمصائر شعوبه. لذا كان من المنطقي أن يصاب صناع القرار بالهلع وترتبك علاقات بعضهم ببعض، فثمة من الفضائح ما يمكن أن يطيح بكل quot;الخرافاتquot; وquot;الأساطيرquot; التي استطاعوا عبرها صنع ما يشبه اليقين الثقافي بأن مصائر الشعوب والبلدان تسير وفق قوانين وضعها الإنسان الحديث وأنهم مجرد موظفين يؤدون أعمالهم بنزاهة ولا يتدخلون بإرادة الشعوب.
ما كشفته الوثائق يشي بخلاف ذلك ولذا كان من المنطقي أن يظهر وزير الدفاع الأميركي وهو يرتعش تأثرا لدفع شكوك شركائه من أن إدارته هي المسؤولة عن هذه الفضيحة. مثلما كان من المنطقي أن تصفر وجوه البعض خوفا وتحمر وجوه أخرى غضبا. ودعونا من الأسماء والمسميات فالوثائق طالت حتى رئيس وزراء تركيا quot;المتدينquot; وادعت أنه quot;فاسدquot; إداريا.
وأنا أرقب أجواء الهلع والتهديدات بمحاكمة أسانج وحتى اغتياله تذكرت واحدة من أشهر الأساطير البابلية القديمة، أقصد أسطورة الطائر quot;أنزوquot; الذي استولى في نوبة شر على ألواح القدر وكاد يعصف بالعالم ويضعه على فوهة فوضى عارمة. وإذ جرى ذلك اضطرب الكون كله فقرر صناع القرار، الآلهة الرافدينية، قتل الطائر المتمرد لتخليص نواميس الطبيعة من براثن يديه المتهورتين.

الطائر quot;أنزوquot;.. بابل تحبس أنفاسها
ترد الأسطورة بصيغتين بابليتين ولكن بفحوى واحدة واليكم أهم مفاصلها اعتمادا على عالم السومريات فاضل عبد الواحد علي (1): تفيد الأسطورة أن الإله الصغير quot;انزوquot; كان ولد فجأة على جبل quot;خخيquot; وتمتع بمزايا خارقة منذ ولادته، وتنوه الأسطورة في بعض مقاطعها إلى الحيرة التي انتابت الآلهة الكبار وعلى رأسهم quot;آنليل quot;، أله العواصف، من سر ولادة ذلك الطائر لكنquot; أيا quot;، إله الحكمة، يجيب بثقة أن فيض المياه هو المسؤول عن ولادته الغامض وأن quot;الأرض الواسعة quot; حبلت به وأنه خلق من حجر الجبل. وبسبب هذه المزايا العظيمة ينصح quot;اياquot; زميله quot;أنليلquot; بأخذ quot;أنزوquot; وتوظيفه عنده. وبالفعل يوظف quot;أنليلquot; quot;انزوquot; ليعمل خادما في مدخل قاعة المعبد الخاصة به. لكن الإله سرعان ما يكشف عن مكره فييبدأ في مراقبة سيده طامعا في شاراته الألهية. ثم يقر قراره على سرقة quot;ألواح القدرquot; الآلهية ليفرض هيمنته على عالم الآلهة بسبب ما تحوزه تلك الألواح من قوى سحرية هائلة تمكن صاحبها من التحكم بمقادير الأشياء (2).
وفي ذات يوم وبينما كان quot;أنليلquot; يغتسل بالماء المقدس ينزو quot;انزوquot; على الألواح ويغتصبها ثم quot;يطير بعيدا ويعود إلى مخبئه.. quot;. أما quot;أنليلquot; فيصعق ويصير كالأبكم لا يدري ما يقول، تماما مثلما هو حال أوباما اليوم بعد فضحية الفضائح، ويكيليكس.
ثم تمضي الأسطورة الممتعة ناقلة الارتباك والخوف اللذين يسيطران على الآلهة. ولاسترداد تلك الألواح يصرخ quot;آنوquot; كبير الآلهة بابنه quot;أددquot;: quot;يامن صولته لا ترد، اضرب quot;انزوquot; بالصاعقة، سلاحك..quot;. لكن جواب quot;أددquot; كان مخيبا للآمال إذ لم يحرك ساكنا ثم quot;ولى هاربا وقال أنه لن يقوم بالحملة ضده quot;.
غير أن ذلك لم يكن نهاية المطاف فألواح القدر تستحق كل التضحيات وتدبير شؤون الكون لا يجب أن ينتهي بين يدي آله صغير طائش مثل quot;أنزوquot; ـ صاحب موقع ويكيلكيكس ـ لذا يتجه quot;أنوquot; إلى ابنائه الآخرين ومنهم quot;شاراquot; وquot; كبراquot; لكن الاثنين يجبنان عن أداء المهمة. وهنا يعلن quot;أنوquot; عن عجزه فيسلم المهمة إلى زميله quot;انكيquot; فيذهب الأخير إلى الاستعانة بالإله quot;ننورتاquot; من أجل القضاء على quot;انزوquot;.
يستجيب quot;ننورتاquot; ويشن المعركة التي تشبه فلم كارتون مصنوع في هوليوود: quot;صف المحارب الرياح السبع الشريرة التي ترقص في غبار المعركة..ثم زمجر quot;ننورتاquot; كالأسد الهصور ولحق صداه صرخة quot;انزوquot; وأصبح الصدام بين صفوف الجند وشيك الوقوع quot;.
ثم quot;ابتل كلاهما بعرق المعركة وأصبح quot;انزوquot; منهكا وكان ريش جناحيه ينسل ويتطاير في مواجهة العواصف فاخترق سهم وسط قلبه ثم اتبعه quot;ننورتاquot; بسهم خرق جناحيه quot;
في الأخير ينتهي الأمر بانتصار quot; ننورتاquot; واستعادة ألواح القدر. يحمل الإله المنتصر الألواح ويذهب بها إلى مركز عبادة quot;انليلquot;، وفي طقوس احتفالية يضع quot;ننورتاquot; الألواح في quot;حجر انليلquot; وسط quot; نفرquot; ـ او نيويورك ـ حاليا.
في هذه اللحظة تنتهي الفوضى ويسترد صناع القرار في معابد بابل أنفاسهم بعد وصلة التمرد المفاجئة من طرف ذلك الطائر المشاكس.

ما الذي تعنيه ألواح القدر؟
تشيع فكرة لوح المصائر أو ألواح القدر في الكثير من الأساطير والديانات. وأبرز مشخصوها هم البابليون ربما ففضلا عن حكاية quot;انزوquot; آنفة الذكر تنبني أسطورة الخليقة البابلية على شيء مشابه وان لم يكن متطابقا. لقد أعتقد البابليون أن العالم بكل مظاهره ليس سوى نتاج صراع بين قيم الفوضى وقيم النظام وفكرتهم هذه مستوحاة من تعاقب الفصول خلال السنة الواحدة واصطراعها الدوري بين الحياة والموت، بين الخصب والجدب أو بين الربيع والخريف.
في quot;الخليقة البابلية التي كانت تجسد شعبيا في صورة تشابيه قريبة مما يجري في أيام عاشوراء ينتدب quot;مردوخquot; لدحر إله شرير يبدو وريثا لـquot; أنزوquot; ويدعى هذه المرة quot; كنكوquot;. وquot;كنكوquot; هذا كان إلها مغمورا لكن دوره يتعاظم بعد زواجه من quot;تيامةquot;، الإلهة المشاغبة التي كان قتل زوجها quot;أبسوquot; فقررت الانتقام من عالم الآلهة. وإذ تتخذ quot;تيامةquot; من quot;كنكوquot; زوجا فإنها تعطيه quot;ألواح القدرquot; ليتلاعب بمقدرات الكون ونواميسه. ثم يجمع الزوجان الشريران جيشا فوضويا رهيبا لدحر آلهة الخير. (3)
في هذا المفصل ينتدب quot;مردوخquot; المولود في quot;حجرة الأقدارquot;، حسب وصف الأسطورة، لقتل quot;كنكو quot; وquot;تيامةquot;. ثم تجري المعركة فيقتل quot;مردوخ quot; quot;تيامةquot; ويشطرها شطرين يخلق منهما الأرض والسماء. أما quot; كنكوquot; ـ صاحب ويكيلكس ـ فيؤسر وتسترد منه quot;ألواح القدرquot; ثم يقتل بعد محاكمة سريعة، والطريف أن quot;مردوخquot; يقرر خلق الإنسان من دم quot;كنكوquot; بعد عجنه بطين بلاد الرافدين !
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا، بهذا الصدد، أن هذه الأسطورة كانت ذات يوم من دم ولحم وليست كباقي الأساطير، ففي بابل القديمة اعتاد الكهنة والأهالي على تأدية شعائرها سنويا ولمدة أثني عشر يوما تنتهي عادة بتنصيب الملك وتجديد ولايته (4).
إن الملحمة تجاهد، بعبارة أخرى، لإعادة إنتاج تعاقب فصول السنة العراقية بشكل طقوسي ينتهي بتثبيت ملوكية الملك بعد أيام فوضى عابرة. لكأن quot;ألواح قدرquot; الإنسان البابلي تتطوح لحظة ثم تستعاد بعد معركة لتوضع بأيدي صناع القرار، أولئك الذين يشبهون أوباما وصحبه من رؤوساء هذه الأيام !

quot;ويكليكسquot; الأميركي: آلهة ما بعد الحداثة
الحق أنه لا يوجد أي رابط بين أسطورة quot;ويكليكسquot; التي نشهد فصولها هذه الأيام وبين تلك الأساطير القديمة لكن ذلك لا يعني عدم شحذ أذهاننا انطلاقا من فكرة وجود quot;الأصابعquot; السحرية المحركة لكل شيء. لا نقصد آلهة تلك المرحلة من تاريخ العقل البشري التي تملك لوح المصائر إنما نقصد آلهة ما بعد الحداثة التي تمتلك هي الأخرى، ليس مصائر الشعوب فقط، بل مصير العقل وطرائق تشكيله.
الحق أنه ثمة من أطربته الفكرة، فكرة وجود أصابع quot;قادرةquot; وquot;خرافيةquot; تحرك الأشياء من حولنا، والمقصود هنا هم أولئك الذين يؤمنون بفرضية quot;موت الإنسانquot; في حقبة ما بعد الحداثة حيث لا يملك الإنسان أي قدرة على رسم مصيره خارج هذه القوى شبه الغيبية التي تتحكم به، بإرادته وأفكاره، بآرائه ووجهات نظره بل بطريقة مشيته ونوع التسريحة التي يفضلها ونكهة الشاي التي يميل إليها.
يقول جاك بودريار وهو يشير إلى واحدة من مآزق الإنسان في عصر الحداثة وما بعدها أنه quot;مقابل الإجماع السحري والإجماع الديني والإجماع الرمزي الذي يميز المجتمع التقليدي quot;العشيرةquot; ينطبع العصر الحديث بظهور الفرد، بمكانته وبوعيه المستقل، بسكيولوجيته وأزماته الشخصية، بمصلحته الخاصة، بل بلا وعيه وباستلابه المعاصر. من حيث انه واقع أكثر فأكثر في شبكة الاتصال الجماهيرية والتنظيمات والمؤسسات quot;(5).
المقصود هنا هو وقوع الإنسان كضحية لما يسميه ادوارد سعيد عصر التمثيل الحديث وهو عصر تبدو الثقافة فيه وكـأنها quot;تعمل بكثير من الفعالية والنجاح لجعل الانتماءات والروابط الفعلية القائمة بين عالم الأفكار والبحث العلمي من جهة، وعالم السياسة الفظ، عالم سلطة المؤسسات والدولة وعالم القوة العسكرية، من جهة أخرى، غير مرئية وحتى غير ممكنة quot;.(6)
أي أن عصر ما بعد الحداثة ابرز إلى الوجود نوعا جديدا من الآلهة هم أولئك القلة الذين تتركز بأيديهم مفاتيح quot;الفهمquot;، فهم الظواهر والأشياء في كل المجالات. والإشارة هنا تتجه إلى كتيبة الخبراء المحترفين المتخصصين وquot;المؤلهينquot; حسب تعبير سعيد وهؤلاء يحملون عقيدة جديدة تقول إن quot;أفضل الحلول هو ترك الجمهور جاهلا وترك أكثر المسائل حسما فيما يخص الوجود الإنساني لـquot;الخبراءquot; والمختصين الذين لا يتكلمون إلا باختصاصهمquot; (7).
ما فعله مؤسس quot;ويكليكسquot; حقيقة أنه خالف هذه العقيدة، عقيدة ترك الجمهور جاهلا، وحاول كشف ما يدور في مجمع آلهة ما بعد الحداثة. لقد سرق لوح المصائر وطار به والعالم اليوم يعيش فوضى شبيهة بتلك التي سببها quot;أنزوquot; وquot;كنكوquot;.
لهذا ربما دعا مستشار رئيس وزراء كندا إلى اغتياله. فلنر ما يفعله quot;ننورتاquot; الأميركي في الأيام المقبلة.

هوامش:
1ـ ينظر فاضل عبد الواحد علي ـ سومر أسطورة وملحمةـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد عام 2000 من ص 125 ـ 135
2 ـ المصدر نفسه ص 127
3 ـ المصدر نفسه ص 121
4 ـ المصدر نفسه ص 122
5 ـ ينظر قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري ـ الحداثة 2 ـ الوطني، الاختلاف، حداثة الآخر شتاء 1991 مؤسسة عيبال للدراسة والنشر ص 388
6 ـ المصدر نفسه ص337
7 ـ المصدر نفسه ص337