مرت أربعة أسابيع على مذبحة نجع حمادي التي ارتكبت في يوم ليلة عيد الميلاد ضد الأقباط المسيحيين في مدينة نجع حمادي. أربعة أسابيع مرت كالدهر من قسوة المأساة المفجعة التي راح ضحيتها سبعة أبرياء. وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الأيادي الأثمة بارتكاب المذابح ضد المسيحيين في مصر، إلا أن المذبحة الأخيرة كان لها أثر شديد على نفوس المسيحيين في كل أرجاء المعمورة نظراً لكونها المذبحة الأولى، بحسب ذاكرتي، التي تقع في مناسبة مسيحية كبيرة. سيل من الأنباء والمقالات والتحليلات المتضاربة بشأن المذبحة بدأ في الانهمار بعيد وقوعها بدقائق معدودات، حتى أنه لم يكن بالإمكان تحديد أسباب الجريمة ودوافعها ومنفذيها ومخططيها الحقيقيين، وإن أكدت شواهد ودلائل المذبحة على أنها طائفية دافعها الأول كراهية المسيحيين والحقد عليهم.

وقعت مذبحة نجع حمادي البشعة ضد مسيحيي البلدة بعيد دقائق معدودات من انتهاء المصلين من طقوسهم الدينية في كنائسهم و قبيل منتصف الليل بدقائق قليلة. انفطرت قلوب ذويي الضحايا السبع وأدمت معها قلوب المسيحيين في مصر والعالم وشاطرها الألم الكثيرون من الإنسانيين من مختلف الأديان في كل أركان العالم. موقف عصيب عاشه، ولا يزال يعيشه بالتأكيد، مسيحييو نجع حمادي الذين سعى المجرمون لنزع سلامهم وهز استقرارهم وزعزعة إيمانهم. أوقات عصيبة وثقيلة كالجبال قضاها المسيحيون في نجع حمادي، أوقات كانت كفيلة بإحداث ثورة عارمة انتقامية وتخريبية بينهم لو لم يكونوا مسالمين مطيعين لتعاليم ربهم التي أوصتهم بمحبة المعتدي وبمباركة الكارهين والصلاة لأجل المسيئين إليهم.

ولكن هل قدر النظام المصري المسيحيين المسالمين الذين لم يسعوا للثأر لذويهم ولفلذات أكبادهم الذين راحوا ضحية الإرهاب والكراهية؟ بالطبع لا. فقد جاء موقف النظام المصري ومريديه محبطاً ومخجلاً ومؤسفاً كالعادة، ورفضت الحكومة بإصرار شديد الاعتراف بالمذبحة، وانكر المسئولون، مدنيون وأمنيون، أن تكون المذبحة ذات أبعاد طائفية وشددوا على أن أركان الجريمة جنائية تماماً مشيرين إلى أن المذبحة كانت رد فعل على حادث قالوا أن شاباً مسيحياً اغتصب خلاله فتاة مسلمة، وهو الأمر الذي يفتقد للمصداقية لأن المذبحة وقعت في مدينة نجع حمادي بينما وقع حادث الاغتصاب الذي يتحدثون عنه في مدينة أخرى تدعى فرشوط.

بدا إصرار الحكومة على عدم طائفية المذبحة واعتبارها انتقاماً لاغتصاب فتاة كما لو كان تقليلاً من شأن المذبحة أو تبريراً لها. واضطر النظام مراراً وتكراراً لاستخدام الكذب أمام الرأي العام العالمي لشرح موقفه من المذبحة. كان أبرز هذه الأكاذيب ما صرح به رئيس مجلس الشعب فتحي سرور في حواره مع محطة الـ بي بي سي التلفزيونية وزعم خلاله بأن جريمة نجع حمادي كانت رداً على مقتل فتاة أثناء اغتصابها من قبل مسيحي. قال سرور ذلك رغم أنه يعي تماماً أن الفتاة التي قيل أنها تعرضت للاغتصاب ما تزال حية ترزق، بل أنها، حسب تقرير الطب الشرعي، لم تتعرض لإصابات تذكر بجسدها. ولكم كان مدهشاً أن يلجأ سرور، استاذ القانون الشهير، للكذب وللحكم بإدانة الشاب المسيحي المتهم في قضية لم يفص فيها القضاء، رغم القاعدة المعروفة التي يعلمها سرور جيداً والتي تقول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته. ولعل في كذب سرور دليل واضح على إدانة النظام ورجاله في تعاملهم مع مذبحة نجع حمادي ومع قضايا المسيحيين بشكل عام.

لم يكن موقف النظام المصري الحاكم بجديد عليه، فلطالما أفسح النظام الطريق أمام المتطرفين لارتكاب جرائم بشعة بحق الأقباط المسيحيين، بل وكثيراً ما أظهر النظام وجهه الحقيقي المتطرف الذي لا يختلف مطلقاً عن وجه جماعات التطرف والإرهاب كجماعة الإخوان المسلمين. وللحق، وهذا استنتاج مبني على شواهد كثيرة، فإنني اعتقد تماماً بأن مواقف النظام المصري من المسيحيين لا يختلف أبداً عن موقف جماعات الإرهاب والتطرف من غير المسلمين، وهو موقف أيديولوجي أظهرته مواقف المسئولين المصريين من قضايا المسيحيين وحقوقهم. ولعلي لا ابالغ هنا إذا قلت أن لا خلافاً عقائدياً أو أيديولوجياً بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين الراعي الأول للتطرف والإرهاب الإسلامي، وأن الصراع المحموم بين الجانبين هو مجرد صراع على السلطة.

وقد سخّر النظام صحفه المسماة بالقومية للإسهاب في شرح موقف الحكومة النافي للبعد الطائفي للمذبحة، فجاءت تغطية الصحف والمجلات الحكومية مخزية وعارية من الصدق. فعلى سبيل المثال قالت جريدة الأهرام في عدد الثامن من يناير أن المجرمين أطلقوا النار في موقعين تجاريين بمدينة نجع حمادي بمحافظة قنا مستغلين إقبال المواطنين المسيحيين علي الأماكن التجارية بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ما أسفر عن مصرع سبعة أشخاص وإصابة عشرة أخرين من المواطنين المسلمين والأقباط. وقد نفت الصحف الحكومية بصلف وعجرفة أن تكون الجريمة طائفية، بل أن الصحفيين الحكوميين اقتربوا بشدة من تبرير المذبحة حين أكدوا مراراً وتكراراً على أن الاعتداء على المسيحيين في يوم عيدهم كان رد فعل على حادث الاغتصاب الذي قيل أن فتاة مسلمة تعرضت له من قبل شخص مسيحي.

والمثير أن الصحف، التي رفضت الاعتراف بأن مذبحة السادس من يناير طائفية استهدفت بالأساس مسيحيين، لم تتوقف عن ترديد عبارات فجة وعنصرية ومغلوطة بشأن حادثة الاغتصاب المزعومة. فقد أفردت الصحف مساحات لأخبار الحادثة ونشرت عناوين بارزة من عينة quot;بدء محاكمة المتهم المسيحي باغتصاب الفتاة المسلمةquot; وquot;تأجيل محاكمة المتهم المسيحي باغتصاب فتاة مسلمةquot; وغيرها من العناوين المثيرة. وقد ظهر الكيل بمكيالين واضحاً في تعامل الصحف الحكومية مع مذبحة نجع حمادي وحادث الاغتصاب الذي قيل أن فتاة مسلمة تعرضت له من قبل بائع جوال مسيحي. ولعل الأحاديث الاستفزازية التي أدلى بها أحمد موسى مسئول قسم الحوادث بجريدة الأهرام في برنامج quot;القاهرة اليومquot; لعمرو أديب هي خير دليل على سياسة عدم التوازن التي تتبعها الصحف الحكومية حيال الجرائم التي يتعرض لها المسيحيون في مصر. فقد أكد موسى على أن مذبحة العيد رد فعل quot;صعيديquot; على حوادث اغتصاب فتيات مسلمات وتداول صورهن عاريات عبر الهواتف المحمولة. ولاحظ هنا أن موسى يشير إلى حوادث (جمع) وليس إلى حادثة واحدة في نشر وتأكيد لشائعات كاذبة ومغرضة تستهدف النيل من المسيحيين. وقد تجاهل موسى الفتيات المسيحيات القصر اللائي يتم التغرير بهن من قبل شباب مسلمين بصفة مستمرة.

من الواضح أن إنكار الحكومة المصرية وزبانيتها للبعد الطائفي لجريمة نجع حمادي وربطها المذبحة بحادث الاغتصاب كان لعدة أغراض هي:

أولاً: محاولة اقناع الرأي العام العالمي بأن المسيحيين كانوا البادئين بالخطأ ومن ثم التخفيف من حدة ردود الأفعال الدولية.

ثانياً: تبرئة وإرضاء المتطرفين المسلمين في مصر وهو النهج الذي دأب النظام على سلوكه في السنوات الأربعين الماضية.

ثالثاً: إرهاب المسيحيين والتأكيد على أن عدم خضوع المسيحيين للمسلمين سيؤدي في المستقبل إلى مذابح مماثلة.

رابعاً: إغلاق ملف المذبحة على اعتبار أنها جريمة انتقام. ويرى البعض أن النظام يهدف بذلك عدم فتح ملفات المخططين الحقيقيين للمذبحة.

خامساً: تشديد العقوبة على المتهم باغتصاب الفتاة حتى يكون عبرة لغيره من المسيحيين، رغم أن الحقيقة والموضوعية تكادان تكونان غائبتان تماماً عن التعاطي مع الحدث، إذ أن تلفيق التهم يعد أمراً يسيراً جداً طالما غابت قيم الصدق والشفافية والعدل والمساواة عن المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية والإعلامية. ومن المؤكد أن المتهم الذي تمت إدانته أولاً من غير محاكمة ستتم إدانته ثانية عبر المحكمة التي تتعرض لضغوط كبيرة من قبل كبار رجال الحكومة المصرية.

إنه الاضطهاد بعينه أن يفقد الإنسان حقوقه وأن تهدر أدميته كما يحدث للأقباط المسيحيين. ولكن على الرغم من الأسى الذي يعتصر القلوب على الضحايا الشهداء الذين سقطوا ضحية الإرهاب ضد المسيحيين في نجع حمادي، وعلى الرغم من الأسف الذي يتملكنا بسبب موقف النظام المصري من مذبحة عيد الميلاد، إلا أن تعضيد عدد من المصريين المسلمين الشرفاء للمسيحيين المفجوعين في ذويهم يخفف بعض الشيء من شدة الألام التي تخلفها المأساة. ربما هي المرة الأولى التي يقوم فيها عدد من النشطاء المسلمين بزيارة أسر ضحايا مسيحيين، وربما هي المرة الأولى التي يتظاهر فيها نشطاء وحقوقيون دفاعاً عن حقوق الأقباط المسيحيين المسلوبة في وطنهم. وهي من دون شك خطوات تجد كل الترحيب والتقدير من كل مسيحي وكل حقوقي وكل إنسان ذي ضمير حي. ومن ناحية أخرى فقد كان وقوف النائبة المسيحية الشريفة جورجيت قليني للدفاع عن حق عن مواطنيها المظلومين كان عملاً رائعاً وشجاعاً وغير مسبوق وأزاح الكثير من الهموم عن أنفس الأقباط المسيحيين الذين لم يعرفوا طوال السنوات الستين الماضية ممثلين حقيقيين عنهم في المحافل السياسية. فتحية صادقة للنائبة التي ربما لن تعود لمقعدها الذي حصلت عليه بالتعيين بعدما خالفت العرف وتجنبت نفاق النظام وشهدت بالحق.


[email protected]