يبدو أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وفريقه في حزب العدالة والتنمية قد درسوا بشكل جيد النفسية العربية وعرفوا بأن اللعب على العواطف هو مفتاح القلوب، وأن مشاعر الجماهير الجيّاشة هي التي تلعب دور quot; الرأي العام الضاغطquot; الذي تخافه الأنظمة في بلاد العرب. وعلى هذا الأساس يتم التعامل التركي الحاذق مع الدول العربية: كلام وquot;شعور عاطفي دفاقquot; مقابل توطيّد المصالح وإبرام العقود التجارية الدسمة ونشر السمعة الطيبة وسط الشارع العربي العريض المخدر!.

ففي الملف السوري مثلاً، ثمّة من جهة علاقات اقتصادية قويّة وصلت حد quot;الإستراتيجيةquot; بين أنقرة ودمشق. علاقة يميل الميزان فيها وبشكل طاغ للجانب التركي. فالبضائع التركية تغزو الأسواق السورية ورؤوس الأموال التركية تلعب في كل الميادين والمناطق وفي شتى المشاريع، وتجتاز جميع الحدود والرقابات دون أي يكون لذلك أي quot; خطر على أمن الدولةquot;، والأرقام تتحدث عن المليارات السيّارة. تركيا تتحكم الآن بإقتصاد المنطقة الشمالية في سوريا، وهي المشهورة بأنها عصب التجارة والصناعة في كامل البلاد. أما في الجانب الآخر فتستمر أنقرة في حجب مياه الفرات ودجلة عن سوريا ومايزال المسؤولون فيها يرفضون الحديث عن أي زيادة لحصة سوريا والعراق في مياه هذين النهرين الذيّن تعتبرهما أنقرة quot;نهرين تركييّن وطنييّنquot; وليسا دولييّن، مثلما تقول المعايير المتعارف عليها. والحجب التركي لمياه الرافدين أدى، إلى ساعة كتابة هذه السطور، إلى إيقاع خسائر بيئية وبشرية واقتصادية فادحة بسوريا والعراق. ويكفي أن نعلم بأن مايربو عن نصف مليون شخص من سكان المحافظات السورية الشرقية: الحسكة والرقة ودير الزور، من الذين جفت حقولهم ونضبت آبارهم، قد تركوا قراهم وهاجروا الى المناطق الداخلية طلباً للعمل لتأمين لقمة العيش. أما في العراق، فنظرة واحدة على بساتين البصرة تٌظهر حجم الضربة التخريبية الإستراتيجية التي أنزلتها السياسة التركية بهذا البلد جراء حرب المياه التي تشنها أنقرة على بغداد الآن. وهناك أيضاً هجر الفلاحون العراقيون قراهم وبساتينهم وتكدسوا حول المدن الكبرى طلباً للرزق. أما الجهات الرسمية فتتجنب الحديث وتسليط الضوء على هذه المشكلة، بإستثناء وزارة الزراعة التي اعلنت عن خسارة 40% من الأراضي الزراعية في البلاد جراء قطع تركيا لمياه دجلة والفرات، هذا غير الأثر المدمر الذي تتركه مياه الصرف المالحة وغير الصالحة للزراعة والإستهلاك، والتي تسمح السلطات التركية بوصولها إلى الأخوة في سوريا والعراق.

الحكومة العراقية، صاحبة quot; الإتفاق الإستراتيجيquot; مع تركيا، ساكتة وغير مهتمة بالموضوع وتقدير حجم الغدرة التاريخية التي تصيب البشر والحجر في أرض السواد جراء سياسة العداء التركية. أما الميزان التجاري فيتجاوز ال 10 مليار دولار بين البلدين، والكفة تميل لصالح أنقرة طبعاً، وبفارق فلكي دائماً.

والغريب، وربما لايبدو الأمر غريباً في الحالة العربية، أن لااحد يتحدث عن الخطر الذي تمثله سياسة قطع المياه عن بلدين عربييّن مهمين، ونضوب الحياة فيهما. أما الجامعة العربية فلاتتحدث عن الخطر الذي يواجه quot; الأمن القومي العربيquot;، ذلك الأمن الذي كان الكليشه الدائم حينما سقط نظام صدام حسين وتصدرّت الطائفة العربية الشيعية المشهد السياسي العراقي.

حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان والصدر الأعظم/وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، صاحب سياسة quot; تصفيّر المشاكلquot; عرفوا كيف يأكلون الكتف العربي كله. الجماعة باعوا العرب كلاماً في الهواء وقبضوا ثمنه مليارات الدولارات. تغلغلوا في الأسواق العربية تجارياً وأحتضوا الإستثمارات والسواح العرب الذين تقاطروا بالملايين لمشاهدة بلاد السلاطين وملاحقة أبطال المسلسلات الهابطة التي غزت المحطات الفضائية العربية كالطحالب الضارة. تركيا قطعت المياه عن العرب وأخذت نفطهم بنصف الثمن ودون أن تدخل في حروب أو تطلق رصاصة واحدة. تركيا تشتم إسرائيل في النهار ليرضى العرب ويشربوا نخبها، لكنها في الليل تستقر في حضن تل أبيب، عندما يكون العرب نيام يحلمون بquot;قرب الإنتصارquot; وquot;عودة الفاتح العظيم الذي سيفتح القدس ويحرر من البحر إلى النهرquot;. بينما كان العرب يرفعون صور أردوغان الذي وقف بوجه شمعون بيريز في quot;دافوسquot; السويسرية، كان جنرالات الجيش التركي يوقعون الإتفاقات مع جيش الدفاع الإسرائيلي ويبتاعون الأسلحة الجديدة في عقود وصٌفت بأنها الأضخم منذ إنطلاق علاقات البلدين!.

في غمرة البحث عن quot;المنقذquot; وquot;المخلصquot; ينسى العرب وتناست أنظمتهم بأن الدول مصالح وأن عالم اليوم لايعرف لغة العواطف والأمنيات. وبدل أن يكون أردوغان هو quot;المخلص لغزة من جحيم الحصار الإسرائيليquot; وهو quot;مفتاح السلامquot; كما يأمل النظام السوري، وهو quot;الشريك والجار الصدوق لتوطيد الأمن والإستقرارquot; كما تأمل الأطراف العراقية المختلفة، فإنه، وفريقه النشط، يتحركون ببراعة من خلف ظهور العرب وأنظمتهم، ويضرمون النيران في طرف الخيمة العربية، لكي تأتي الإستغاثة، فيتحرك quot;السلطان المنقذquot; بدافع الغيرة الدينية ويبدأ في إطفاء الحرائق وتسوية مانتج عنها، لكن بحسب ما تقتضي مصلحته ومصلحة أهل داره، وليس كرما لعين أي شخص آخر. وهنا يكمن كل الحذق السياسي، وتكمن قمة البراعة وحسن التدبير.

[email protected]