في العاشر من الشهر الماضي، اوردت وكالة الصحافة المستقلة على موقعها الالكتروني خبر لقاء دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي بمجموعة من سفراء العراق الجدد فبل التحاقهم بعملهم في العديد من سفارات العراق في الخارج. لقد بحث السيد رئيس الوزراء في هذا اللقاء قضايا عديدة من اهمها قضية تعزيز علاقات العراق وتفعيل الاتفاقات ومذكرات التفاهم مع الدول المعتمدين فيها. كذلك، اعتبر السيد رئيس الوزراء التحاق هذه الدفعة الجديدة من السفراء كخطوة اساسية على طريق بناء الدولة على اسس سليمة. ايضا، اشار الى صعوبة المهمة الملقاة على كاهل السفراء الجدد بسبب ما تعرضت له سمعة العراق من تشويه من قبل اعداء الديمقراطية والعملية السياسية الجارية في البلاد.

ان ما تناوله دولة رئيس الوزراء في القاء المذكور له اهمية خاصة وذلك لثلاثة اعتبارات اساسية اولها، الحاجة الماسة لترشيد استخدام الاموال العامة ورفع كفاءة عمل وزارة الخارجية. ان وزرارة الخارجية هي وزارة سيادية يعمل فيها ما يزيد على 2000 موظف و تخصص لها مبالغ كبيرة من الاموال العامة نصل الى 350 مليون دولار سنويا لتغطية نفقات الوزارة المختلفة بضمنها رواتب ( مع المخصصات ) السفراء الجدد التي تبلغ قرابة 9 الاف دولار شهريا لكل سفير.

والاعتبار الثاني يتمثل في الرغبة بتفعيل سياسة العراق الخارجية للتعامل بجدية وكفاءة مع العديد من الملفات العالقة التي لازالت تشكل قيود قاسية على العمل الدبلوماسي العراقي. وبأسف شديد، يمكن القول بأن ضخامة الامول العامة التي تم انفاقها على وزارة الخارحية منذ عام 2003 حتى الوقت الحاضر، لايتناسب مع انجازات سياسة العراق الخارجية التي لازالت انجازاتها شكلية ومتواضعة جدا في ما يخص ملف اخراج العراق من البند السابع، وملف غزو الكويت، وملف النفط والغاز في الحقول الحدودية، وملف المياه، وملف اتفاقية 1975 مع ايران، وملف الديون والتعويضات.

اما الاعتبار الثالث فيتعلق بالحرص على ان يكون للعمل الدبلوماسي العراقي دور فعال في اسناد وتعزيز جهود عملية الاعمار والتنمية الاقتصادية في العراق. فمن الواضح ان العراق بحاجة ماسة الى الدعم الدولي خاصة في رفع حجم تدفقات رؤوس الاموال الاجنبية واكتساب التكنولوجيا وتعظيد العلاقات التجارية والمالية المتوازنة. كذلك، يتوقع للعراق ان يعيد وبعزز مكانته في سوق الطاقة العالمية في المستقبل القريب، الامر الذي يحتاج الى تطوير سريع لعلاقات البلاد مع مختلف الدول التي تشكل اسواق للنفط العراقي. ان السياسة الخارجية العراقية لازالت تعاني من ضعف صارخ في هذا المجال وذلك بسبب غياب دبلوماسية افتصادية نشطة وفعالة.

اذا كانت الاعتبارات المذكورة اعلاه تبين مدى اهمية ما تطرق اليه رئيس الوزراء في لقاءه مع السفراء الجدد، فأن هذه الاعتبارات تشير ايضا الى حجم الصعوبات التي ينبغي على السفراء مواجهتها وتخطيها. ولكي يتحقق النجاح لهؤلاء في مهماتهم، لابد من توفر جملة من الشروط الاساسية التي ينبغي على الحكومة القادمة العمل بجدية لتوفيرها:

1-الشرط الاول يتمثل في الحاجة الملحة الى الاصلاح السريع والحازم للمركز الذي ترتبط به هذه الشبكة الواسعة من سفاراتنا في الخارج، اي اصلاح وزارة الخارجية المسئولة عن تنفيذ السياسة الخارجية للحكومة. لقد عانت وزارة الخارجية كغيرها من مؤسسات الدولة الاخرى من سياسات النظام الدكتاتوري المتخلف السابق. غير ان سقوط ذلك النظام قد بعث امال كبيرة في ان تبدأ عملية اعادة هيكلية جادة ورصينة لمؤسسات الدولة وبضمنها وزارة الخارجية. غير ان مؤشرات عديدة تدل على ان وزارة الخارجية لازالت تعاني من استمرار غياب سياسات حكومية واضحة ومترابطة، بسبب المحاصصة الطائفية والعرقية الفجة وتداعياتها السياسية منذ عام 2003، الامر الذي ساهم في تدني مستوى العمل الدبلوماسي العراقي والى هامشية انجازات السياسة الخارجية العراقية. ان المحاصصة كانت السبب الاول في توتر العلاقة بين رئاسة الوزراء ووزير الخارجية خلال الاعوام الاربع الماضية، الامر الذي ادى الى خلق صراعات جانبية معلنة ومبطنة بين وكلاء وزارة الخارجية وكذلك بين مدراء الدوائر المختلفة داخل الوزارة. ومن المؤسف ان بعض عناصر النظام السابق فد اججوا واستغلوا هذه الصراعات حتى بلغ الحال الى مشاركة السكرتيرات ورؤساء الاقسام وحتى السواق وعمال الخدمات في هذه الصراعات، مما ادى الى شل العمل داخل الوزارة واثر سلبيا على سير عملها واستخدامها للمال العام. وبالامكان ايراد امثلة ووقائع عديدة ومؤسفة على تردي اساليب العمل وصيغ التوظيف في داخل الوزارة وتشويه طبيعة علاقاتعا مع سفارتنا في الخارج. وعلى الرغم من ذلك، لازالت وزارة الخارجية تحتوي على العديد من الموظفين من ذوي الخبرة والحس العميق بالمسئولية والحرص على المصالح العامة. غير انهم اصبحوا ضحية لهذا الجو المتشنج والمشحون الذي تعيشه الوزارة.

ان اتباع المعايير الوطنية والابتعاد عن المحاصصة (المشاركة او الشراكة) كاساس في تشكيل الحكومة القادمة سيمهد الطريق لاصلاح جدي للوضع المأساوي الذي تعيشه وزارة الخارجية. وفي حالة تعذر ذلك وبقاء المحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة، لابد لرئيس الوزراء القادم من الاصرار اولا، على ان تكون وزارة الخارجية من حصة الحزب او الكتلة التي يمثلها، الامر الذي قد يوفر نوعا من الضمان لمتابعة الاصلاح الذي تحتاجه وزارة الخارجية، من ناحية، وقد يساعد في ايجاد الحد الادنى من التنسيق الضروري لتفعيل السياسة الخارجية العراقية، من ناحية اخرى. وثاتيا، يقتضي اصلاح وزارة الخارجية التأكيد على الجمع بين معيار الايمان بالعملية السياسة والديمقراطية وبين معيار الكفاءة والنزاهة وقوة الارادة في اختيار الوكلاء ومدراء الدوائر في الوزارة. وثالثا، ينبغي على الاصلاح ان يشمل رؤساء الاقسام في داخل الوزارة، خاصة وان اغلب هؤلاء قد تم اختيارهم من قبل عناصر النظام السابق قبل احالة هذه العناصر على التقاعد مؤخرا.

2- الشرط الثاني لنجاح مهمة السفراء الجدد يقتضي مراجعة شاملة وجدية لسياسة العراق الخارجية. لقد كان لسياسات النظام السابق العدوانية الاثر الكبير في عزلة العراق وتخلف سافر لسياسته الخارجية. ومن الملفت للانتباه هو ان العزلة التي عاشها العراق في فترة الحصار الدولي الذي فرض على البلاد خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، قد تزامنت مع تغيرات جيوبوليتكية واقتصادية هائلة شهدها العالم منذ عام 1989 والتي تمثلت بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. كما ادى اجتياح موجات العولمة والانفتاح والتحرر الاقتصادي الى تغيير جذري في العلاقات الاقتصادية الدولية والى تجدد القوانين التي تنظمها. كذلك، شهدت هذه الفترة بروز الدور المتعاضم للدول النامية الصاعدة كالصين والهند والبرازيل والمكسيك وجنوب افريقيا في النظام الاقتصادي الدولي، وتصاعد نشاط منظمات المجتمع المدني في الدفاع عن البيئة وحقوق الانسان واسناد الدول الفقيرة. ان عزلة العراق عن هذه التطورات الهائلة ادى الى تقادم الخبرات والامكانيات المتوفرة في الوزارة وفي سفاراتنا في الخارج، الامر الذي قاد الى تهميش صارخ لدور العمل الدبلوماسي العراقي وتدنيه الى مستوى ممارسة العلاقات العامة الهامشية والاجراءات الوظيفية الروتينية البسيطة.

ان كافة المحاولات التي قامت بها الحكومات التي جاءت بعد سقوط النظام السابق لاحداث تغيير نوعي في السياسة الخارجية العراقية لم تكن بمستوى التحديات الكبيرة التي باتت تواجه العراق بعد التغيير. ويكفي الحكم على مدى كفاءة هذه السياسة اعتمادا على النتائج التي تحققت خلال السنوات الاربع الماضية. فهذه النتائج بقيت متواضعة ليس فقط في التعامل الجدي مع الملفات العديدة التي تركها النظام السابق خاصة مع دول الجوار والمذكورة سابقا، بل في حشد الدعم الدولي للبدء بعملية بناء واعمار العراق الذي دمرته ثلاثة عقود من العسكرة والحروب والحصار. لقد كان من المفروض عدم ارسال الكوادر الذين التحقوا بوزارة الخارجية في السنوات الاولى بعد سقوط النظام السابق الى خارج الوطن، بل كان من المنطقي الابقاء على عدد مناسب منهم ومن ذوي الكفاءة والخبرة في مركز الوزارة لكي يساهموا في الاصلاح المطلوب. وحتى االعدد لقليل من هؤلاء الذين بقوا في الوزارة بقي دورهم هامشيا بسبب محاصرتهم والتشهير بهم من قبل بعض عناصر النظام السابق الذين رغم احالتهم على التقاعد من قبل رئيس الوزراء، بقوا مسيطرين كليا على شؤون الوزارة تحت حجة امتلاكهم quot; لخبرات استثنائية وان الوزير بحاجة لهذه الخبرات الخارقة quot;.

ان السياسة الخارجية العراقية بقيت ولازالت تنفذ بصيغة القيام بمبادرات فردية محكومة عادة برد الفعل الاني،الامر الذي ادى الى غياب الترابط والاتساق والاصرار في صياغة وتنفيذ القرارالدبلوماسي العراقي. ان الضعف الكبير في مساهمة دوائر الوزارة الفنية، وكذلك، القصور الواضح في توفير التفارير النوعية والمتجددة (تقارير الموقف) التي تبعث بها سفاراتنا حول الدول المتواجدة بها، ناهيك عن غياب العلاقات المنظمة والجدية مع الوزارات المختلفة الاخرى، ساهم كل ذلك في عدم احترام التسلسل المنطقي في صياغة الفعل الدبلوماسي العراقي ابتدا من مرحلة وضع جدول الاعمال والتشاور ضمن الحكومة وخارجها، مرورا بمرحلة التخويل وتوزيع الصلاحيات والتفاوض، وانتهاءا بمرحلة المصادقة والتنفيذ.

بغية اجراء التغييرات المطلوبة لرسم سياسة خارجية رشيدة وجدية ترتقي الى مستوى التحديات القائمة، ينبغي على الحكومة القادمة، اولا، تشكيل وحدة متخصصة، ضمن مكتب المستشارين التابع لرئيس الوزراء، تساهم في رسم ومتابعة تنفيذ وتقييم السياسة الخارجية العراقية بالتعاون مع وزارة الخارجية ومع السلطة التشريعية. وثانيا، الحرص على اختيار الكفاءات المتميزة من الدفعة الجديدة من السفراء للبقاء في مركز الوزارة بغية اصلاح الفوضى التي سادت في عمل الوزارة خلال السنوات الماضية. ثالثا، الاهتمام الجدي بمركز الخدمة الخارجية واختيار كوادر تدريسية كفؤة لضمان رفع مستوى التكوين والتدريب للكادر الدبلوماسي، وكذلك السعي لتطوير البحث العلمي في المجالات الاستراتيجية والجغرافية السياسية والاقتصادية كما هو الحال في الدول المجاورة. ورابعا، العمل على نوفيرالاموال والكوادر لمكتبة الوزارة المتقادمة لتتحول الى مركز متطور ومتجدد لبحث والمعلومات.

3- الشرط الثالث يتعلق بالحاجة الماسة لاحياء البعد الاقتصادي في السياسة الخارجية العراقية (الدبلوماسية الاقتصادية) بشكل خاص وذلك للاعتبارات التالية: اولا، شهدت العلاقات الاقتصادية الدولية بشكل عام، والعمل الدبلوماسي بشكل خاص، تغيرات هائلة احدثتها العولمة خلال العقدين الماضيين في حركة التجارة العالمية وتحرك رؤوس الاموال والانتشار الكبير للمعلوماتية. لذا، اصبح من الضروري ان تتكيف السياسة الخارجية لمواكبة هذه التطورات بغية فك عزلة العراق وتسهيل اندماجه المدروس في الاقتصاد العالمي المتسارع في الانفتاح والتطور. ثانيا، على الرغم من ان وزارة الخارجية وضعت quot; استراتيجيةquot; توكد اساسا على مهام اسناد عملية البناء والتعمير وتنمية الاقتصاد العراقي، كما يتضح ذلك على موقع الوزارة الالكتروني، لم تقم الوزاة طيلة الاعوام الماضية التي اعقبت سقوط النظام البائد، ببذل اي جهد يذكر في هذا المجال. فعلى النقيض لما هو حاصل في اغلب دول العالم المتقدمة منها والنامية، لم تشهدت الفترة الماضية دور ملحوظ للوزارة لا في معالجة التزامات العراق المالية من ديون وتعويضات، ولا في جذب رؤوس الاموال الاجنبية والتكنولوجيا التي يحتاجها العراق للبناء والتعمير، ولا حتى المساهمة في توجيه ودعم العلاقات التجارية والاقتصادية للعراق مع دول الجوار وبقية اقطار العالم. وفي كل الاحوال، فأن هذا الامر لايثير الاستغراب مادامت وزارة الخارجية لازالت تعاني من افتقارها لدائرة اقتصادية يناط بها انجاز هذه المهمات الحيوية، ولا يوجد بين كوادرها الا ما ندر من لهم التكوين والخبرة اللازمة في هذا المجال، ناهيك عن ضعف علاقاتها مع الوزارات وموسسات الدولة الاخرى ومؤسسات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، تلك العلاقات الضرورية والاساسية لممارسة الدبلوماسية الاقتصادية الفعالة المطلوبة.

ان معالجة هذا الخلل الكبير في السياسة الخارجية يقتضي الاهتمام الجدي بتأسيس دائرة اقتصادية في وزارة الخارجية وتوفير كافة المستلزمات الضرورية لتقوم هذه الدائرة بنشاطاتها باشكل المطلوب.

مما ذكر اعلاه، يمكن الاستنتاج بأن الاصلاح الهيكلي لوزارة الخارجية والتغيير الجدي في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية لابد من ان يصبح من اولويات الحكومة المقبلة. ان استلام الدفعة الجديدة من السفراء الجدد لمهام اعمالهم يشكل خطوة ضرورية على طريق بناء الدولة على اسس سليمة، كما اشار دولة رئيس الوزراء، ولكنها ليست كافية لمواجهة التحديات الكبيرة في صياغة وتطبيق سياسة خارجية كفؤة وفعالة. ولابد من التذكير في النهاية بأن نجاح السياسة الخارجية يعتمد ايضا وبشكل واضح على نجاح مجمل السياسات العامة للحكومة. فكلما كانت السياسات العامة تتسم بالاتساق والتكامل والوضوح والاصرار كلما ارتفعت فرص نجاح السياسة الخارجية العراقية.

المستشار الاقتصادي السابق لوزارة الخارجية