قال البعض في الصحافة الجزائرية إن كتيبة رابح سعدان حطت رحالها في بلاد البافانا بافانا، لتحارب في موقعة المونديال بكل بسالة. وقال آخرون إن مقاتلي الصحراء سيرعبون أعداءهم. نزلت هذه الشعارات التي لا تصلح إلا في زمن الحروب والتي تكررت وترددت كثيرا، نزلت بردا وحماسا على أسماع اللاهثين وراء السراب وسرعان ما اصطدموا بجدار الحقيقة في أول اختبار أمام سلوفينيا. بائعوا الأوهام لم يتوقفوا كثيرا عند أسباب القوة وسبل تحقيق النجاح بل نفخوا في عامل ثانوي وهو تحقيق المفاجأة بالروح القتالية، لكن هذه الروح تحتاج إلى التكافؤ في موازين القوة.

على نسق لغة الحروب الدونكيشوتية فإن الاعتماد على السهام والرماح لا يهزم خصوما كبارا أخذوا بكل أسباب القوة من صواريخ ومدرعات ومعدات تكنولوجية. والأهم أنهم استفادوا من مناخ الحرية السائد في ديموقراطياتهم. وبدون الحرية لا يتحقق لا النجاح ولا التقدم. فأهلا بالانكسارات على صخرة الواقع.

هل للديموقراطية دخل في تطور الرياضة؟

لماذا تفوز غانا في أول اختبار لها وتحقق جنوب افريقيا تعادلا إيجابيا في المونديال فيما تخسر الجزائر ونيجيريا في أول مباراة لهما؟ لنتفحص النتائج التي حققتها هذه الفرق في الدور الأول ونقارنها بترتيب الدول من حيث الفساد في العالم.

من بين مئة وثمانين دولة، احتلت سلوفينيا المرتبة السابعة والعشرين في سلم الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام ألفين وتسعة وهي مرتبة جد متقدمة.

الجزائر وفي نفس التقرير احتلت المركز الحادي عشر بعد المئة. بمعنى أن سلوفينيا تتقدم على الجزائر باثنتين وثمانين نقطة، ولاكتساب هذه النقاط تحتاج الجزائر على الأقل إلى ثلاثين عاما تشتغل فيه على مدار الساعة لتنظيف مؤسساتها من الرشوة و الفساد.

وبالمناسبة فإن الرياضة الأولى في سلوفينيا هي الآيس هوكي وتأتي بعدها كل أنواع رياضات الثلج ولا يتعدى رقم المسجلين في قوائم لاعبي ومدربي كرة القدم في بلد المليوني نسمة، لا يتعدى ثلاثين ألف شخص. فيما تُعد كرة القدم الرياضة الأولى دون منازع في الجزائر.

نعود إلى إفريقيا ونقول، إن أنظف دولة في القارة السمراء هي جنوب إفريقيا وقد احتلت المرتبة الخامسة والخمسين حسب نفس التقرير. وهذه من الأسباب المهمة التي جعلتها تحظى بشرف تنظيم المونديال. و جعلت فريقها يبرز بوجه مشرف في أول ظهور له. بعد جنوب إفريقيا تأتي نامبيا في المرتبة السادسة والخمسين ثم غانا بلد كوفي أنان في المركز التاسع والستين.

أما نيجيريا فجاءت في المرتبة الثلاثين بعد المئة ليس بعيدا عن جمهوريات الموز الكثيرة أين يتفشى الفساد وتنتشر انتهاكات حقوق الإنسان البسيطة مثل الكاميرون وسيراليون وساحل العاج والقائمة طويلة.

البرازيل ظاهرة فريدة من نوعها:

في تقرير سلم الفساد في العالم لعام ألفين وتسعة تحتل البرازيل المرتبة الخامسة والسبعين، لكن ورغم هذه المرتبة المتدنية فإنها من بين أهم المرشحين لنيل لقب المونديال، والبرازيل هي أكثر دولة إحرازا للقب. فالكأس التي ظفرت بها في مونديال ألفين واثنين الذي نُظم مناصفة بين اليابان وكوريا الجنوبية هي الخامسة لها في تاريخ كأس العالم، فلماذا لم يعرقل الفساد مسيرة المنتخب البرازيلي على غرار منتخاب أخرى؟

الجواب على هذا السؤال تتداخل فيه السياسة بعلم الاجتماع وعوامل أخرى، يقول المتابعون لمسيرة كرة القدم في البرازيل، إن أشهر اللاعبين البرازيليين لم يتخرجوا من مدارس كروية عريقة وإنما داعبوا الكرة في مايسمى بالبرتغالية البرازيلية Faveras وهي مدن الصفيح المحيطة بالمدن الكبرى، وحسب المؤرخين فإن أولى هذه الأحياء الفوضوية نمت في نهاية القرن الثامن عشر وسُمّيت Bairros Africanos بمعنى الجيران الأفارقة حيث لجأ العبيد الذين استعادوا حريتهم إلى العيش في الضواحي. وظلت هذه الأحياء تنتج على مدى خمسين عاما الماضية أشهر اللاعبين أمثال: بيليه، غارينشا، رونالدينيو، روبيرتو كارلوس وغيرهم كثيرون.

كرة القدم تُعتبر ديانة في البرازيل. يكافح الأطفال في مدن الصفيح طوال حياتهم للبروز في عالم الكرة، لأنها في رأيهم الحل الوحيد لوضع حد لمعاناة الفقر والخروج من هيمنة مافيا المخدرات التي تسيطر على أحيائهم.

البرازيل بدأت في الاستثمار في الكرة المستديرة منذ الثلاثينات من القرن الماضي وفي الخمسينات بدأ الحلم يتحقق. كارلوس ألبيرتو بيريرا، المدرب البرازيلي المشهور لم يجد تفسيرا لنجاح بلاده في كرة القدم. تساءل؟ ربما لأن البرازيل لم تتعرض للزلازل كبقية الدول في العالم. وربما لأن البرازيليين لم يحاربوا من أجل استعادة حريتهم!

لكن علماء الاجتماع في البرازيل يعتبرون بأن هذا النجاح المستمر في ميدان الكرة يعود إلى أن الشعب البرازيلي يعيش الكرة ويتنفسها والفرق بينهم وبين الأوروبيين أن البرازيليين يعيشون الكرة أربعا وعشرين ساعة غير أن الأوروبيين وبقية العالم يعودون إلى أعمالهم وأشغالهم بمجرد انتهاء المونديال.

أوجه التشابه والاختلاف بين أبناء Faveras وأبناء Banlieues

لا شك في أن اللاعبين التسعة عشر الذين يشكلون عمدة المنتخب الجزائري(23 لاعبا) نشأوا وترعرعوا في الضواحي الفرنسية التي كانت أحياء من الصفيح وداعبوا الكرة منذ نعومة أظافرهم مع أقرانهم من أبناء الجيل الأول من المهاجرين الجزائريين والمغاربة والتوانسة الذين هاجروا في نهاية الخمسينات وعانوا من الاستعمار والعبودية على أساس العرق والدين. وهم لا يختلفون كثيرا عن لاعبي المنتخب البرازيلي الذين استُعبد أجدادهم وهُمّشَ آباؤهم على أساس اللون.

اللاعبون الفرنسيون من أصول جزائرية داعبوا الكرة وحققوا أحلامهم حيث خرجوا من ضيق الضواحي إلى وسع المال والشهرة العالمية. وأثبتوا أنهم أهلا للنجاح إنْ تحققت الإرادة والإمكانات. لكن لماذا برز هؤلاء في المنتخب الفرنسي أمثال زيدان، بن زيمة وغيرهم وحققوا نتائج مبهرة فيما أخفق آخرون مع المنتخب الجزائري في أول ظهور له في المونديال؟ ولماذا نجح الكثيرون منهم في إبراز مواهبهم في الأندية الأوروبية وأخفقوا عندما تقمصوا الألوان الجزائرية؟

ألو! نعم سيدي، أمرك.

في فرنسا وأوروبا تم فصل الكنيسة عن السياسة منذ أربعمئة عام، فما بالكم عن فصل الرياضة عن السياسة! في الدول المتحضرة عموما تعمل المؤسسات على تنوع مهامها وفق منظومة مستقلة شفافة واضحة الصلاحيات. ولنأخذ المنتخب الإنجليزي مثالا حيث تمارس الصحافة اليمينية حربا ضروسا على مدرب المنتخب الإنجليزي فابيو كابيللو باعتباره إيطاليّا وتترصد أخطاءه. في هذا البلد لا يتجرأ رئيس الوزراء أو قائد القوات البريطانية في أفغانستان برفع سماعة التلفون وانتقاد كابيللو (الأجنبي) فكيف بإملاء الأوامر عليه! لأن كابيللو حتما سيرد عليه قائلا، خطط المنتخب القومي هي من صلاحياتي وليست من صلاحياتك سيدي. وسيمسح به الأرض في اليوم الموالي في الصحافة الإنجليزية ثم يضطر السياسي أو الجنرال إلى تقديم الاعتذار للمدرب وللجماهير على صفحات الصحف. تخيلوا نفس السيناريو يحدث في الجزائر أوفي الدول المتخلفة.

وهنا أبدأ من الأخير ومن تصريحات المدرب رابح سعدان الذي اعترف بأن استغناءه عن قائد الفريق يزيد منصوري جاء إثر مكالمة من ناس فوق. ولا أستبعد بأن الذي رفع السماعة وطالب بتنحية منصوري هو نفسه الذي أمر بالإبقاء عليه، ثم عدل عن قراره بعد ضغط الجماهير الذي من الممكن أن يتحول إلى أعمال شغب بعد خروج المنتخب الجزائري من المونديال بوجه شاحب.

هل يتصل الجنرال والرئيس والوزير بمدرب المنتخب البرازيلي؟ هذا وارد جدا، مادام مؤشر الفساد في البرازيل لم يخرج من دائرة اللون الأحمر. وهنا يكمن اللغز، اختيارات مدرب المنتخب البرازيلي واسعة ومتنوعة مقارنة ببقية المدربين في الدول المتخلفة. وفي حال اعتراض السياسيين عن إقحام أحد اللاعبين في التشكيلة فإن للمدرب من أمثاله العشرات إن لم أقل المئات في قائمة البدلاء، حتى أنه بإمكانه أن يذهب إلى شواطئ ريو ديجانيرو ويأتي بتشكيلة يخوض بها غمار المونديال. وهنا أعتقد بأنني لم أصل إلى الحقيقة وإنما حاولتُ فك لغز تألق البرازيل رغم فساد سياسييها وإدارييها. ورغم هذا فإن البرازيل تبقى استثناء، والشاذ لا يُقاس عليه.

سعدان صنم، لكنه ليس استثناءًا:

رابح سعدان أو الشيخ الذي كان ضمن طاقم التدريب في مونديال اسبانيا عام اثنين وثمانين هو نفسه الذي درب المنتخب الذي شارك في مونديال مكسيكو عام ستة وثمانين وهاهو يجلس على نفس الكرسي في الألفية الجديدة في مونديال جنوب إفريقيا. باستثناء بعض التعديلات في طاقم التدريب التي لم تُعمّر طويلا، هاهو سعدان يعود إلى كرسيه قرابة ثلاثين عاما! هل نلوم سعدان؟ طبعا لا. أنظروا حولكم، الأصنام كثيرة ومنتشرة في كل مكان. من يستطيع كسرها؟ بل حتى انتقادها. في بلد لا يستطيع أحد أن ينتقد بقّال الحي لأنه يخشى من رد فعله الذي قد يكون حرمانه من الرغيف الساخن صباح كل يوم، فكيف تتوقعون أن تكون عاقبة البلد، الإبداع والنجاح!

انظروا إلى حالة المدرب الجزائري محمود قندوز (مقيم في الإمارات) الذي تجرأ على انتقاد سعدان وفريقه علنا. رسائل إلكترونية ومكالمات تلفونية تتوعده بالويل وفقدانه لعقد محترم مع المنبر الذي كان يطل منه على المشاهدين. النقد البناء عادة ما يُفقد صاحبه صداقات وامتيازات بل يكسبه المزيد من الأعداء والحملات المعادية التي تهدف إلى ضرب مصالحه وتحطيم صورته. وفي تقديري بأن محمود قندوز لم يكن ليوجه تلك الانتقادات البناءة للشيخ سعدان وفريقه لولا استقلاليته المادية عن مؤسسات صناعة الأصنام وتواجده بالخارج. وهنا يمكننا استيعاب وفهم موقف ذلك الإنسان البسيط الذي يخشى انتقاد البقال لأنه مرتبط مصلحيا ببضاعته مع كل إشراقة شمس.

الصحافة والنفخ في الرماد:

لا أريد أن أُعمّم، لكن الغالبية الساحقة في الصحافة الجزائرية نفخت ولاتزال تنفخ في الرماد وتلعب على وتر الوطنية والمشاعر والغرائز. ووراء هذه الحملة مصالح كثيرة ومعقدة ومتداخلة منها ماهو ربحي محض ومنها ما هو تخذير سياسي واجتماعي، وأنصح هنا طلبة معهد الصحافة في الجزائر بالتفرغ لتأليف مذكرات حول تغطية الصحافة المكتوبة للمنتخب قبل وأثناء وبعد المونديال، لأن ما سيُكتب عن هذا الحدث سيغوص عميقا في الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي الذي تعيشه بلادنا.

(مناصرونا أرعبوا السلوفينيين، تسريحات الاستيلاب والاغتراب، المناصرون الجزائريون يقتحمون أرضية الملعب قبل المباراة، مناصر يصنع الحدث بتسلقه عمود الأضواء الكاشفة..) هذه بعض العناوين التي جادت بها قريحة من سموا أنفسهم بالصحافيين في الجزائر، وهي تدل بوضوح على أنها تدغدغ غريزة (الغاشي-الرعاع) والعاقل هنا يطرح تساؤلات عميقة، هل الأنصار قطعوا كل هذه المسافات لإرعاب الناس وإرهابهم؟ وهل الجاهل الذي يتسلق عمودا كهربائيا عالي الضغط في حدث تاريخي يتابعه المليارات من البشر يساهم في تحسين صورة بلده أو تحطيمها؟ وكيف صنع الحدث؟ وهل هنالك رئيس تحرير جريدة عاقل يجتمع مع طاقمه ليحثهم على محاولة تهذيب ذوق الجماهير لأن الرياضة فن وتهذيب للذوق العام وليست صراعات وحربا وإرهابا. وأن صورة الجزائر في المحك، والدول تستغل هذه المناسبة لتحسين صورتها وجذب السواح إليها.

غزال (يغتال) فرحة الجزائريين:

هذا عنوان آخر يعكس الحضيض الذي تعيشه بعض الصحف المحلية. فكلمة يغتال هنا هي دعوة صريحة في المقابل للاغتيال. وكلنا يتذكر مصير اللاعب الكولومبي أندريس إسكوبار الذي سجل هدفا ضد مرماه في مونديال أربعة وتسعين، وبعد الهستيريا التي سادت الجماهير إثر الحملة الصحفية التحريضية على اللاعب، تمت عملية اغتياله على أيدي أحد المتعصبين. ولا شك أن المهاجم غزال ومن شدة خوفه من رد فعل الجماهير الغاضبة التي عنّفته بعد مباراة الإمارات في ألمانيا، قام بإمساك الكرة بيده ليطرد نحس صيامه عن التهديف. كما أن الحارس شاوشي الذي أنقذ مرماه من هدفين لم يسمع سوى الانتقادات واللعن وتحميله مسؤولية الخسارة بعد الخطأ الذي ارتكبه. ولم تتطرق صحف التحريض إلى الصورة الكاملة، وهي أن المنتخب لم يمتلك أسباب القوة وأن هذه النتيجة منطقية وخسارته في مبارتي إنجلترا والولايات المتحدة ستكون أكثر من منطقية لأن اللعب مع الكبار يحتاج إلى عمل سنوات وليس أشهرا كما يحتاج إلى استقلالية قرارات المدرب والطاقم التقني وإلى إعادة هيكلة كل المؤسسات الرياضية. وأنا أكتب هذا المقال قبل انطلاقة مباراة المنتخب الجزائري مع نظيره الانجليزي وقبل أسبوعين من لقائه نظيره الأمريكي فإنني أتوقع كما يتوقع العالم أجمع باستثناء بائعي الوهم بأن تتلقى الجزائر في المبارتين على الأقل أربعة أهداف ويخرج المنتخب من البطولة صفر اليدين.

بعد المونديال ستنكشف بعض الحقائق:

خروج المنتخب الجزائري من الدور الأول سيكشف الكثير من الحقائق ولا أريد أن أستبق الأحداث إلا أنني سأطرح تساؤلات ستجيب عنها الأيام القليلة القادمة: من الذي اتصل بالمدرب سعدان وأمره بإبعاد منصوري،ومن كان وراء إشراكه أساسيا؟ ولماذا يحتفظ سعدان ببعض اللاعبين رغم تدهور لعبهم؟ لماذا رفض لاعب اتحاد جدة عبد الملك زياية الانضمام إلى المنتخب؟ ماهي قصة اللاعب لموشية الحقيقية؟ ولماذا أُبعد اللاعب عامر بوعزة رغم قدراته الهائلة؟ ولماذا اشترى التلفزيون الجزائري حقوق بث المباريات من الجزيرة الرياضية بمبلغ عشرين مليون دولار، في حين استفادت بعض الدول من المباريات مجانا، ومن الذي يقف وراء الصفقة؟ ومن هم الصحافيون الرياضيون الذين يأخذون نسبة أرباح من بطاقات الجزيرة الرياضية التي تدخل الجزائر في الشنطة عبر مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية؟ ومن الذي يستفيد من الإعلانات الإشهارية خلال المونديال في التلفزيون الرسمي (اليتيمة)؟ ومن يقف وراء شركات الإشهار الخاصة وكم هو نفوذهم داخل هيئاتنا الرياضية؟ لكن كل هذه الأسئلة لا تأتي بمقدار السؤال الذي اجتمع من أجله الأمنيون بعد الخسارة مع سلوفينيا: كيف سنواجه الغضب الجماهيري بعد خروجنا من الدور الأول وبالتالي من المونديال والذي يتزامن مع قدوم شهر رمضان وارتفاع أسعار المواد الضرورية؟

هل سيُشعل سخط الجماهير المحرومة الجبهة الإجتماعية قريبا؟ من يدري!