قبل كل شيء، أن الذي يدعوني لكتابة هذا المقال هو التفكير بموت سبع سجناء عراقيين خنقا ً حتى الموت، وذلك أثناء نقلهم من سجن إلى سجن آخر في سيارة للجيش. لاأخفي عليكم بإني عشت هذه المشاعر في يوم من الأيام في أحد سجون الجيش، وذلك في بدايات تسعينيات القرن الماضي، و لمدة ثلاث أيام فقط. مع شديد الأسف، إن أكثر شيء متوفر في العراق هو الموت المجاني. ففي العراق يموت الإنسان لاتفه الأسباب، أو ربما بلا سبب. قد يموت الإنسان خنقا ً، مثل هؤلاء السجناء المساكين، أو مصادفة حين يكون في المكان الخطأ أثناء إنفجار سيارة مفخخة، أو قتلا ً على أيدي ميليشيات، أو في نزاع عشائري على شيء ليس له قيمة. تحصيل حاصل إن القيمة الإنسانية أصبحت في ادنى مستوياتها، هذا إن كانت موجودة أصلا ً. ولكن ماهي القيمة الإنسانية وكيف يمكن قياسها؟ وهل هناك من سبيل لرفع تلك القيمة إلى مستوى معين؟


يقسم فلاسفة الأخلاق القيمة الى قسمين مختلفين حسب نظرية القيمة. القيمة الأولى هي القيمة الآداتية أو القيمة الواسطة(Instrumental value)، أما القيمة الثانية فهي القيمة الغائية أو النهائية (Intrinsic value). فالقيمة الأولى، أو القيمة الآداتية ليس لها قيمة في ذاتها بل في غيرها، أي هي وسيلة للوصول للقيمة الثانية أو القيمة النهائية التي هي قيمة بذاتها، على حد قول افلاطون. فجهاز التلفزيون ليس له قيمة نهائية بل قيمته تنحصر في إيصال الصورة والمعلومة، وبغير ذلك لاقيمة له، وهكذا كل الأدوات في حياتنا. اما القيمة الثانية أي الغائية، فقيمتها في ذاتها، مثل الإنسان وباقي القيم الأخلاقية. وعلى هذا الأساس فلايمكن التبادل بين القيمة الأولى والثانية بأي حال من الاحوال. في نفس الوقت هناك الكثير من القيم هي غائية وواسطة في نفس الوقت. فهناك صراع أيضا ً بين الفلاسفة حول ماهية هذه القيم في ماهيتها(ontology) إن كانت نسبية أم مطلقة من جانب، أو إن كانت بنائية أم جوهرية من جانب آخر. فالموضوع ثقافي ويعتمد على أختلاف البشر في أذواقهم وطريقة تفكيرهم في ترتيب هذه القيم، أو في نوعية الثقافة السائدة في مجتمع ما. اضافة إلى ذلك، فهناك الكثير من القيم تتحول من القيمة الأولى إلى الثانية وبالعكس، ومثالا ًعلى ذلك موضوع الحفاظ على البيئة. فقد تحول مفهوم البيئة من قيمة آداتيه إلى قيمة نهائية في السنوات الأخيرة.


لكن الثابت أن القيمة الأنسانية هي قيمة نهائية ولايمكن أعتبارها كقيمة آداتية في أي حال من الأحوال، وعلى الأقل في الشرائع السماوية والقانونية. ففي القرآن الكريم، يقول الله (ولقد كرمنا بني آدم)، ولقد كرم النبي محمد الحيوان فضلاً عن الإنسان بعتبار أن له قيمة غائية، وذلك حينما أوصى بأن لايتبادل الناس الأحاديث وهم على ضهور دوباهم، بل النزول عنها لأن لها قيمة أعتبارية في ذاتها، اضافة لقيمتها الآداتية. أما قانونا ً فقد أشير في قوانين حقوق الإنسان، أن الإنسان يجب أن يعامل كذات وليس كموضوع. فالتعامل مع الإنسان كذات يعطيه قيمة في ذاته باعتباره كائن عاقل. وأخيراُ ففي الفلسفة يقول عمانوئيل كانت، أن لايمكن اعتبارالإنسان وسيلة أو واسطة، بل هو قيمة وغاية في ذاته.


ولكن. مامعنى القيمة الإنسانية وكيف يمكن قياسها! هذا السؤال مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بطريقة فهم الإنسان، وبالطبع، كل ثقافة لها فهم معين للطبيعة الإنسانية. القصد من الثقافة هنا هو منظومة القيم التي تطغى في مجتمع ما ويربى الإنسان عليها منذ الصغر، أي مجموع متجانس من القيم الدينية والتراث والأفكار العلمية والغيبية الخ. المهم هنا هو أن الثابت في كل الثقافات والفلسفات أن فهم الإنسان محصور بين الموضوع (Object) والذات (Subject). فعندما يقيم الإنسان على أنه موضوع بحت، تنحصر قيمته بكيانه المادي فقط، ويتحول ألى آداة بيد الآخرين أو السلطة، كإعتبار المرأة موضوع للجنس فقط، أو كإستخدام الإنسان في التجارب العلمية. أما أذا قيُم الإنسان على أنه ذات، فستكون قيمته معنوية بأنه كائن عاقل له هدف في فعله وله أحلام وخطط لكيفية إدارة حياته اليومية، أي كائن مفكر له قيمه الخاصة به وله مقدساته وأفكاره التي يجب أن تحترم، وليس كائن مادي فقط. إذا ً، على هذا الاساس، تكون القيمة الإنسانية متدرجة بين الموضوع والذات بنسب مختلفة. (ربما ساتحدث عن الإنسان بين الذات والموضوع في مقال لاحق).


أن النقلة النوعية في فهم الطبيعة الإنسانية فلسفيا ً تمت على يد الفيلسوف الفرنسي ديكارت. فهو القائل (أنا أفكر، أنا موجود أذاً). فقد حول ديكارت محور التفكير الفلسفي والعلمي لاحقا ً من محور الله الخالق إلى محور الإنسان. لقد كان الله المحور في طريقة التفكير في القرون الوسطى مدعوما ًمن قبل الكنيسة، فكل شيء يدور حول هذا المحور حتى الأمور العلمية والمعاشية البسيطة التي تحتاج إلى التجربة. لكن ديكارت حول هذا المحور بأتجاه الإنسان ككائن مفكر. فقد ربط ديكارت فكرة الوجود بالتفكير، فعندما لايفكر الإنسان فهو إذا ًغير موجود. لكن مامعنى أن يكون الإنسان مفكرا ً؟ لقد حول ديكارت بإختصار القيمة الإنسانية من الموضوع إلى الذات. أن يكون الإنسان مفكراً يعني أن له القدرة على التغيير، أن له مشاعر، أن له أحلام خاصة به تميزه عن الآخرين، بإختصار شديد أن تكون للإنسان هوية خاصة به مثل البصمة التي تميزه عن الآخرين.


عوداً على نطرية القيمة، فأن فهم والتعامل مع الإنسان على أنه موضوع في الأساس وليس ذات يجعل منه قيمة آداتية. ولكن السؤال هو كيف يمكن التعامل مع الإنسان كموضوع في الأساس؟ هناك أكثر من بعد في التعامل مع الأنسان على أنه موضوع و إعتبار الذات كشئ تكميلي. فهناك البعد النفسي السايكلوجي، وذلك حين يعامل الإنسان نفسه كموضوع حين يهلكها في تحصيل المال أو ينغمس في الملذات لإشباع رغبات معينة، أو حينما يقوم الإنسان بإيذاء نفسه وأقصاها الإنتحار. وأيضا ً في طريقة معاملة الإنسان للآخرين كمواضيع وليس ذوات بإستغلالهم في الوصول لغاية منشودة، بعدم احترام ذواتهم وأفكارهم وعقائدهم وطريقة عيشهم في الحياة، وذلك يتجلى في كعملة الزوجة والاطفال. وأما في البعد الإجتماعي فمعاملة الإنسان كموضوع من قبل السلطة الحاكمة، أو المؤسسات بكل أنواعها، وذلك حينما تجعل من ذلك الإنسان وسيلة للوصول لهدف معين. وبهذا يكون ذلك الإنسان ليس أكثر من رقم يمكن سحقة في طابور المراجعات للدوائر الحكومية، أو من خلال سوقه في مظاهرات ورفع شعارات لغايات حزبية أو ماشابه.


أخيراً وليس آخراً،أن تصحيح القيمة الإنسانية يتم من خلال مراجعة منضومة القيم لثقافة ما، ومثالا ً على ذلك في الثقافة العربية هو الهرم التراتيبي في القيم (hierarchy). ففي ثقافتنا دائما هناك من هو أعلى وأدني، فهذا سيد وهذا شيخ عشيرة وذاك ضابط برتبة كبيرة أو هذا غني وفقيرأو أعطاء الرجل قيمة أكبر من المرأة بإعتبارها تابعة والرجل مسؤل عنها بإعتباره متبوع. إن هذا الترتيب الهرمي يجعل من القيمة الإنسانية في حالة من التفاوت في الدرجة. أن تصحيح مفهوم القيمة الإنسانية واجب من الكل على الكل. واذا تحدثت عن العراق، فذلك لسبب بسيط وهو أن العراق دخل مرحلة جديدة في نظامه السياسي والذي يتمثل في الديمقراطية. فمن أسس الديمقراطية هو الإنتخاب والإختيار، وهذا لاينسجم مع القيمة المتدنية للإنسان بإعتباره موضوع أو قيمة لغيره. فالإنسان في المجتمعات الديمقراطية هو ذات وليس موضوع، وهو الذي يغير ولايتم التحكم به من قبل السلطة. والجميل بالأمر أن هذا التحول لايتناقض مع مفاهيمنا الدينية الأساسية. ففي القرآن الكريم يقول الله (إن أكرمكم عن الله أتقاكم).


[email protected]