لقد فكرت كثيرا ً عن كيفية كتابة مدخل لمقالتي هذه عن قيمة الإنسان. فكان الحدث الذي يشغل الشارع المصري عن مقتل أحد الشباب ضربا ً حتى الموت من قبل مخبرين في الشرطة المصرية أكبر محفزلي ليكون مدخلا ًجيدا ً لمقالتي. شخصيا ً كنت شاهد عيان لموقف مع الشرطة المصرية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ولازال هذا الموقف عالق في ذهني إلى الآن.


كنت في طريقي من الاردن إلى ليبيا، هاربا ً من جحيم العراق. فكان لابد من المرور في مصر آن ذاك، لكن المشكلة كانت بأني عراقي وليس لي حق بالحصول على تأشيرة دخول الدولة المصرية. لكن التجارة وكسب المال جعل من شركات النقل أن تجد حلا ً قانونيا ً لكل العراقيين بالمرور في مصر والوصول إلى ليبيا، وذلك يتم بالشكل التالي. يدخل العراقيون اراضي الدولة المصرية على شكل مجموعات بصفة مقبوض عليهم، أو قل بصفة سجناء لتجنب موضوع تأشيرة الدخول. وعلى هذا الأساس رافقنا نحن الثلاثة عشر فردا ً أثنين من الشرطة المصرية من ميناء النويبع إلى نقطة تفتيش السلوم على الحدود الليبية. وصلنا القاهرة صباحا ً وأدخلنا أصحاب شركة النقل كراج السيارات، ذلك المكان القذر المليء بدهون السيارات، التابع للشركة وذلك للإستراحة بضع ساعات قبل الإنطلاق مجددا ً في رحلتنا بإتجاه ليبيا. لقد كان الشرطيين أحدهما كبير في السن وأعلى رتبة من الشرطي الثاني الذي مازال شابا ً في مقتبل العمر واسمه عبد الله. بالنسبة لنا كان الخروج من العراق اشبه بالخروج من سجن شمشون الجبار، وهمنا هو مشاهدة كل مكان بمتعة فما بالك بالقاهرة وهي أم الدنيا على حد قول المصريين. بعد محاولات إقناع وقليل من المال وافق عبد الله أن يصطحبنا بجولة بالقاهرة التي كان لايعرف طرقها ودروبها، فهو من الزقازيق حسب ما عرفنا لاحقا ً. لقد كانت جولة رائعة لنا نحن الأربع اشخاص مع عبد الله ختمناها بالتسوق لرحلتنا من منطقة حي الحسين في القاهرة.

لقد كان المصريون لطفاء في معاملتنا حتى أنهم رفضوا في البداية أخذ المال بعد معرفة أننا عراقييون. لكن ماكان ينتظرنا وعبد الله أكبر. ففي الكراج كان في أنتظارنا عقيد للشرطة المصرية الذي أنهال ضربا ً على عبد الله في وسط الشارع في منطقة شبرا أمامنا وأمام المارة والسيارات والعمارات السكنية. لقد وبخه وانهال علية بكيل من الشتائم التي لايرضى بها الله ولا عباده. اما عبد الله المسكين فقد كان ساكتا ً. حينها تدخلنا وطلبنا من عقيد الشرطة الكفاف عن الضرب والشتائم، وقلنا له بإننا اردنا فقط التسوق لرحلتنا ونحن من طلب ذلك. فقال لنا العقيد باللهجة المصرية (العتب مش عليكم، العتب على الزبالة بتاعتنا). واصلنا طريقنا بعد ذلك في جو من الكآبة، وظل عبد الله غارقا ً بالصمت حتى نهاية الرحلة. أنتهت القصة هنا.


كلما تذكرت هذه القصة، أتذكر معها جدلية السيد والعبد التي طرحها الفيلسوف الالماني فريدرك هيجل. يقول هيجل أن العبد بحاجة إلى السيد لتوفير أحتياجاته المعيشية من خلال العمل الذي يقوم به للسيد. في نفس الوقت يحتاج السيد للعبد لتوفير أحتياجات السيد الذي لايستطيع القيام بها لأن مكانته الإجتماعية لاتسمح له بذلك. فهو ينظر للعبد على أنه آداة لتحصيل المال والحفاظ على المكانة الإجتماعية. العبد بحاجة للسيد من أجل البقاء على قيد الحياة، والسيد بحاجة للعبد ليكون سيدا ً، فكلاهما بحاجة للآخر في علاقة تفاعلية. فالمكانة الاجتماعية غير مستقلة بذاتها بل تعتمد على غيرها لإثبات وجودها داخل هذا العلاقة التفاعلية. فلكي يكون السيد سيدا ً، لابد أن يكون هناك عبدا ً، وذلك من خلال إبقاء العبد بحاجة للعمل ليأخذ إعترافا ً منه بالسيادة. فالعبد أكثر إستقلاليه من السيد في إعتماده على الآخر. وعلى هذا الأساس، يقوم السيد بإنتاج وعي العبد عن نفسه، وذلك من خلال إبقاء العبد بحاجة للسيد من خلال الحاجة. فتتشكل هوية العبد الذاتيه عن نفسه من خلال الوعي الذي ينتجه السيد، لينظر العبد لنفسه على إنه عبد ولايمكن في إي حال من الأحوال أن يصبح سيدا ً. ففي هذه العلاقة يقوم السيد على الدوام بممارسة سلطته كسيد لتركيز ذلك الوعي، وتذكير العبد بإنه عبد. إذا ً، من خلال ممارسة السلطة ينتزع السيد إعترافا ُ من العبد بإنه سيد. فيقوم السيد بنفي الآخر لإثبات الذات، فيقوم السيد بإهانة العبد وإشعاره بإنه أدنى من السيد ليثبت لنفسه وللآخرين إنه سيد.


هذه الجدلية لها صور متعدده في مجتمعنا، فما السيد الا رمزللتفوق لمن يمتلك السلطة، وما العبد الا رمز للدونية لمن تمارس عليه تلك السلطة. فقد استخدم كارل ماركس هذه الجدلية لوصف العلاقة بين الطبقة العاملة ووعيها عن نفسها والطبقة البرجوازية. وكذلك استخدمت هذه الفكرة لوصف العلاقة بين المُستعِمرالاوربي والمُستعمَرفي بلاد العالم الثالث، وذلك باستخدام الوعي الزائف لافهام الشعوب المتخلفة بإنها متخلفة بالفطرة. إذا ً، تلك الجدلية موجودة في مجتمعنا وتمارس في كل مكان، مادام هناك هرم أجتماعي وتفاوت للقيمة الإنسانية بين البشر على أساس هذا مسلم وذاك غير مسلم، هذا من منطقة الجنوب ذاك من الشمال، هذا سيد وذاك من عامة الناس، هذا عربي وذاك أعجمي، هذا رجل وتلك إمرأة. فينعكس هذا الترتيب الهرمي على المهن أيضا ً، فيكون هذا ضابط وذاك جندي ويحق له ممارسة سلطته بدون رادع من خلال إهانته لإثبات سيادته وأخذ الإعتراف منه بإنه أفضل منه بإعتباره ضابطا ً. فهناك ماكنة ضخمة في مجتمعنا تقوم بإعادة أنتاج هذا الوعي ليبقى هذا الهرم الإجتماعي المتفاوت القيمة بين البشر. تتمثل هذه الماكنة من خلال السلطة الدكتاتورية التي هي من صلب ثقافتنا العربية وتبدأ ممارستها في داخل بيوتنا كثقافة لإدارة العائلة، ولاتنتهي إلا بنخبنا السياسية. أضافة إلى ذلك هناك عوامل لاتقل تأثيرا ً عن ذلك فقوم بإعادة إنتاج هذا الوعي وذلك من خلال الطبقة الدينية التي بنيت أصلا ً على شكل هرمي ويقوم الدعاة بالحفاظ عل شكلها وذلك من خلال الإستناد لفكر ديني منحرف تجعل من السيد سيدا ً ومن العبد عبدا ً، وأبسط مثال على ذلك هو ترسيخ الفرق بالقيمة بين الرجل والمرأة. أما طبقتنا المثقفة فهي غير أصيلة، بمعنى إنها لاتمتلك روح الثقافة النقدية، إلا الشيئ اليسير الذي يغرد خارج ماكنة السلطة. فأغلب المثقفين ليس إلا ببغاوات يرددون ماتردد السلطة ليكونوا عاملا ً أضافيا ُ في ترسيخ وعي سلطة السيد على العبد.


أعود هنا لقصتي مع عبد الله والضابط المصري. فقد أدركت حينها أن الموضوع يتعدى أن يكون مجرد مخالفة قانونية من عبد الله، فهي إشكالية ذات جذور ثقافية بكل معنى الكلمة. يضرب الضابط عبد الله ويهينه لإنه أنسان بسيط، جندي ومن غير محافظة (لاحظ كلمة العتب على الزبالة بتاعتنا التي قالها الضابط). فمارس الضابط بكل وحشية أقسى انواع الإهانة ليأخذ إعترافا ً من عبد الله بإنه ضابط وأنه أفضل منه. فكان يمكن للضابط أن يتبع السبل القانونية لمعاقبة عبد الله، لكن من الناحية النفسية كان الضابط بحاجة لنقطة ضعف في علاقة بين رئيس ومرؤوس لإثبات سلطته ومكانته الإجتماعية والتذكير بها. وذلك لكي لاينسى عبد الله بإنه جندي بسيط من الزقازيق. هذا بكل بساطة جزء يسير مما يحدث كل يوم وعلى كل الاصعدة في حياتنا الإجتماعية.


[email protected]