مدينة الناصرية، مرکز محافظة ذي قار و، واحدة من أهم و أشهر المدن التي ترکت تأثيرا کبيرا و بالغا في المشهدين السياسي و الثقافي العراقيين، مثلت و تمثل دوما رقما مهما في الذاکرة العراقية و يمکن إعتبارها من أهم مدن الجنوب القاطبة لو لم تکن هنالك البصرة(منافستها و غريمتها الصعبة المراس).

الناصرية اوquot;المنتفكquot;، کما کانت تسمى قديما، شغلت مساحة لايستهان بها أبدا من الفضاء العراقي الرحب وکانت دوما تجر العباءة العراقية من طرف خاص تکاد أن تنفرد به من دون کافة المدن العراقية الاخرى لتدفع بالاوضاع العراقية صوب معترکات و منعطفات غير عادية، وهي کانت مهدا و معقلا مهما جدا للفکر المارکسي اللينيني في العراق و، منها إنطلق الحزب الشيوعي العراقي و قائده المٶسس فهدquot;يوسف سلمان يوسفquot; واحد من أهم و أشهر الوجوه القيادية في هذا الحزب على وجه الاطلاق، کما إنها کانت أيضا واحدة من أهم قلاع نشوء الفکر القومي العربي ولاسيما عندما نتذکر فٶاد الرکابي، أول أمين عام لحزب البعث العربي الاشتراکي(عندما کان حزبا بالمعنى الحرفي للکلمة وليس مجرد جوقة عشائرية قبلية کما حدث فيما بعد)، ذلك الرجل الذي سعى لإضفاء صبغة حضارية و معاصرة على البعث وأصطدم من أجل ذلك مع التيارات القبلية و المتخلفة و خاض صراعا مريرا ضد إنشاء الميليشيات، وانتهى به المطاف ليتم إغتياله في بداية إنقلاب ١٧ تموز الاسود في سجن بعقوبة و بأمر خاص من صدام حسين ذاته.

الناصرية،هي واحدة من أهم المدن العراقية إنجابا للنخب الادبية و الثقافية و الفنية و قدمت الکثير من الکتاب و الشعراء و الفنانين و الشخصيات الاجتماعية المشهورة التي برزت کل واحدة منها في مجالها الخاص وقدمت خدمات جليلة للعراق و شعبه، وهي تعتبر و بحق مدينة منجبة لأفضل شعراء و فناني العراق ومنهم على سبيل المثال لا الحصر؛ الشعراء المشهورين، زامل سعيد فتاح و کاظم الرکابي و عريان السيد خلف و الفنانين الکبار داخل حسن و حضيري أبو عزيز و ناصر الحکيم و حسين نعمة و الملحن المشهور طالب القرغولي، و کانت مهدا و ساحة من سوح الثقافة و الشموخ الفکري مثلما کانت بيرقا من بيارق الحرية و الانعتاق الانساني وکانت دوما سباقة في التمرد على المألوف و السعي لتقديم کل ماهو جديد و معاصر.

الناصرية التي أسبغ عليها شاعرها المعروف زامل سعيد فتاح مسحة کبيرة من الحزن في رائعتهquot;المکيرquot;التي غناها المطرب ياس خضر عندما قال:
(وارد للناصرية ردود مخنوگة بألف عبرة يراويني النهر موگاف حبنە و ديرتە العشرة)، فإنها إشتهرت أکثر بروحها المرحة الوثابة و لطالما إشتهرت هذه المدينة بظرافتها و إنفتاحها و جنوحها لروح الدعابة و النکتة وحتى ان إطلاق مصطلحquot;الشجرة الخبيثةquot;عليها قد کان أساسا لروح الدعابة و المزاح و الظرافة في أهلها.

الناصرية اليوم وبعد تأريخ حافل وعريق، يلوث ثلة من خفافيش و کلاب الليل المسعورة شوارعها بقاذورات و مخلفات عفنة سعيا لفرض دثار رث و بالي شبيه بذلك الذي تريد بعض من الانظمة الشمولية القمعية فرضها قسرا على شعوبها، وقد کان غريب جدا ان نسمع ان هذه المدينة التي کانت تصدر النور و الثقافة و الحضارة الى بقية أرجاء العراق و العالم، باتت تئن من وطأة المارقين و عصابات المتاجرة بالدين و بکل شئ في سبيل أهدافها القذرة ويبدو انquot;العودة المخنوقة بألف عبرةquot;لزامل سعيد فتاح الى الناصرية، قد باتت تتجسد الان بشکل جلي للعيان، خصوصا وان شذاذي الآفاق من الذين کانوا بالامس فدائيين للدکتاتور المقبور، قد عادوا اليوم بأقنعة دينية مزيفة کسابقتها ليبثوا الرعب و الخوف و عدم الاستقرار هنا و هناك، لکن ويقينا بأن الناصرية وکما عودتنا وفي احلك الظروف، ستعود لتنهض من جديد و تنفض عن نفسها غبار و دنس هذه الجراثيم البشرية وان هذا النهوض قريب و قريب جدا!