في الخامس عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل يكون نصف قرن، بالتمام والكمال، قد مر على أول وآخر مرة في حياتي أدخل فيها قرية كردية من قرى لواء أربيل، وأعيش فيها سنة كاملة، وألتصق بأهلها وأذوق حلوهم ومرَّ سياسييهم، بما لم يتوفر لكثيرٍ غيري من عرب العراق.

كان ينبغي أن أعلِّم التلاميذ الأكراد الذين لا يعرفون كلمة عربية واحدة، وأنا لا أعرف كلمة كردية واحدة.

كنت بعثيا مبعدا من الإذاعة من قبل رفاقنا الشيوعيين في بغداد إلى رفاقهم الشيوعيين والقوميين الأكراد في تلك المنطقة المهملة الفقيرة التي لم تدخلها الكهرباء والمياه بعد، مع توصية مشددة بمراقبتي ومحصارتي دون رحمة.

لم يكن الفلاحون البسطاء في تلك القرية والقرى المجاورة يعرفون شيئا عن السياسة وخفايا صراع أحزابها، ولا يريدون أن يعرفوا. كانوا أنقياء، بسطاء، مسالمين.

وبالضد من قسوة رفاقي الشيوعيين والبارتيين (هكذا كان يسمى أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني يومها)، أحاطني أهالي القرية، بجهود (حسه) فراش المدرسة، ومام كريم سائق القرية، وأغا القرية المجاورة (سربشاخ)، بعطف غير محدود وكرم منقطع النظير. حتى أن أغا سربشاخ، وكان له ولدان يتعلمان في مدرستنا، أبلغ مواطنيه الشيوعيين والبارتيين، بجد، بأنني ضيفه، وبأن من يمسني بأذىً سيكون عدوه اللدود. وكثيرا ما كان يدعوني إلى داره لغداء أو عشاء، وأحيانا لفطور. وكنت أتنقل في المنطقة بحرية واطمئنان ومسرة بلا حدود. بل أكثر من ذلك. لقد ظل وفد من أهالي القرية يزورني كل عام في بغداد، محملا بالفواكه والجبن والعسل الحر.

جعلتني هذه الذكرى أفكر في حقيقة العلاقة بين أكراد العراق وعربه، وما بلغته من تعقيدات وانتكاسات باعدت بين الطرفين إلى حد كبير.
وتساءلت، من أين جاءت العصبية القومية المتطرفة في المواطنين الأكراد حتى بلغت ما هي عليه اليوم؟ ومن المسؤول عن تنامي بُغضهم الشديد لشركائهم في الدولة العراقية، وبالأخص أبناء الأجيال الجديدة منهم؟

وبالبحث والتدقيق يتبين أن ما شهده العراق، في نصف قرن من الزمان، من مشاكسات ومنازعات وحروب، داخلية وخارجية، في ظل حكومات غير ديمقراطية، مفروضة بقوة السلاح، هو الذي بنى، رويدا رويدا، هذه الجدران والحواجز بين مواطن ومواطن، مدينة ومدينة، طائفة وطائفة، دين ودين، قومية وقومية أخرى. ثم حلت الكارثة الأكثر مرارة ًمن كل الكوارث السابقة حين جاء صدام حسين فأنعش العنجهية القومية العربية، وعَمـَّق الخوفَ من الوطن في نفوس غير العرب من سكانه، وحَبب لهم الانفصال.

ولا شك في أن كثيراً من مصائب العراق، منذ سقوط النظام وإلى اليوم، هي حصادُ ما كان عاكفا على زرْعه في عشرات السنين.

وزيفٌ كاملٌ أن يدعيَ بعضُ زملائنا الكتاب اليوم بأن التفرقة الطائفية والعنصرية ولدت بعد سقوط نظام صدام، وأنها لم تكن موجودة قبل ذلك.

بـَلا. هي كانت هناك، حتى في ولادة الدولة العراقية عام 1921. فقد كان العرب يتعالون على الكرد وعلى التركمان، والسنة يتعالون على الشيعة، والشيعة يتعالون على السنة، والمسلمون يتعالون على المسيحيين، والحقد يتمشى في عروق الجميع، لكنْ خلف أستار ٍمن الرياء والزيف والنفاق. لم تكن الشراكة في المواطنة عادلة، في يوم من الأيام، بين مكونات ما يسمى اليوم بـ (الشعب العراقي). كان دائما هناك ظالم ومظلوم، ساجن ومسجون، سارق ومسروق، قاتل ومقتول.

وفشلت وستفشل كل المحاولات البريئة لتعميم فكرة الهوية العراقية الموحدة، واعتبار المواطن عراقيا أولا، قبل أن يكون عربيا أو كرديا أو تركمانيا، وقبل أن يكون شيعيا أو سنيا، مسلما أو مسيحيا. بل إن الخيرين الطيبين أصحابَ مثل هذه المحاولات تحولوا إلى أهداف مكشوفة لأقلام الأحزاب الدينية والقومية معا، فصاروا عملاء وخونة وفاسدين.

وحتى الأمل بقيامة العلمانيين والديمقراطيين العراقيين من موتهم القـَدري أو الجبْري مات هو الآخر. فبدون قوة رادعة ذاتية، وأخرى داعمة خارجية، وخزائن مليئة بالعملات العراقية والعربية والدولية، ستظل قوى الديمقراطية والعلمانية صفرا على الشمال. وليس أدل على ذلك من نصيب الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية الأخرى من الانتخابات الأخيرة. فرغم أن الشيوعيين أثبتوا أنهم السياسيون الأكثر نزاهة وصدقا ووطنية، فقد منحت الجماهيرُ العريضة أصواتها لقادة أحزاب طائفية وعنصرية زكمت فضائحُهم وسرقاتهم ورجعيتهم الأنوف، ولم تمنح الشيوعيين والديمقراطيين ولو مقعدا واحدا في البرلمان المعطل.

ثم داعب خيالـَنا حلمُ انتفاض الجماهير الناقمة التي كفرت بالقادة الجدد، وبما أنزلوه بها من جوع ومرض وظلام وحَـر وضيق رزق وقتلٍ وتفجير، وتفاءلنا حين رأيناها تهب من رقدتها، قليلا، فيما عرف بانتفاضة الكهرباء، لكنها عادت إلى سباتها من جديد.

فلم يعد، بعد كل ذلك، أملٌ في قدرة أحد على وقف مسلسل التردي والموت البطيء. ويزعم المتقاتلون على الكراسي، اليوم، بأن دافعهم إلى ذلك هو خدمة المواطن، وحماية ما أسموه (الوحدة الوطنية)، وهم غير صادقين وغير مخلصين.

فلم توجد وحدة ترابية ولا وحدة سكانية من أي نوع، في العراق، منذ نعومة أظفاره وإلى اليوم. وكل ما كان موجودا مصالحُ ملحة أجبرت مكونات هذا الوطن على قبول المظلوم بالظالم، والمسجون بالساجن، والمسروق بالسارق، والمقتول بالقاتل، مؤقتا، وإلى أن تحين الساعة المباركة.
وها هي الأحقاد الدفينة بين الطوائف والقوميات والأديان العراقية تعلن عن نفسها بهذا الاقتتال الدامي فيما بينها، من عام 2003 وإلى اليوم إلى أمد قادم طويل.

وحتى الديمقراطية التي يتاجرون بها ويتمسحون بأثوابها أثبت الواقع أنها مغشوشة وغير جديرة بالاحترام. فقد داسوا على قوانينها وأحكامها وأصولها حين تقاطعت مع أغراضهم الشخصية أو الحزبية أو الطائفية أو العشائرية. وحتى لو فـُرض عليهم حل ٌ من الخارج، وتشكلت الحكومة، فعلى مضض، وسيبقى داخل كل واحد منهم صدام حسين مختبئا ينتظر الفرصة ليبطش برفاقه من جديد.

فلا الشيعة تثق بالسنة، ولا السنة تثق بالشيعة، ولا الأكراد يثقون بالعرب، ولا العرب يثقون بالأكراد. والشيعة لن تعطي رئاسة الوزراء للسنة، ولو من وراء واجهة شيعية. والعرب، شيعة وسنة، لن يعطوها لأحد من الكرد.

بالمقابل سيبقى الكرد في حالة الدولة غير المعلنة، ولن يعودوا إلى سابق العهد والزمان، فينقادوا لحكومة عربية في بغداد، حتى لو كان لهم فيها حصة الأسد. فقد ذاقوا حلاوة الحرية ونعمة الاستقلال. وعذرُهم أنهم بشاهدون العراق العربي وهو يحترق، ويخشون من الاحتراق فيه.

فزعماء الشيعية يبالغون في استثمار عفوية المتدينين البسطاء من أبناء الطائفة، ويتطرفون في رعاية مسيراتهم واحتفالاتهم المستمرة على مدار السنة، بميلاد أو استشهاد أو وفاة عشرات الأولياء والأئمة، ويسخرون، لنشر أخبارها والتبشير بأفكارها، جميع فضائياتهم وفضائيات الدولة، وإذاعاتهم وإذاعات الدولة، وصحفهم وصحف الدولة، ويهدرون على حمايتها وتأمين لوازمها التموينية الباهضة الكثير الكثير من المال العام، وهو مال تشترك في ملكيته الطوائف والقوميات والأديان العراقية الأخرى.

والبعثيون و(القاعديون) العاجزون عن اصطياد الزعماء الجدد الذين اغتصبوا كراسيَهم السابقة وأحتلوا قصورهم ومزارعهم، يتوجهون إلى الهدف الأسهل، فيقتحمون مسيرات الفقراء وأسواقهم ومدارسهم وحسيناياتهم، فيقتلون بمفخخاتهم عشرات أو مئات من نسائهم وشيوخهم وأطفالهم كل يوم وكل ساعة. وتظل دائرة الموت تدور في كل مدينة وقرية، ولا تكف عن الدوران.

أما السنة، قياداتٍ ومواطنين، فمستسلمون لسطوة البعثيين المعشعشين في مفاصل الحياة في مدن وقرى المناطق السنية كلها، مكشوفين أو متسترين بواجهات متنوعة متعددة. وليست القاعدة في العراق، وتشكيلاتـُها وتنظيماتها المتعددة والمتنوعة، سوى أجهزة تابعة لحزب البعث، أو مُدارة ٍ من قبله. وكذلك جيوش المقاومة (المزعومة) التي لا تقتل غير العراقيين الأبرياء، ولا تمس جنود الاحتلال بسوء.

ولن يهدأ شارع، ولن تأمن قرية أو مدينة، ولن ينام مواطن واحد خاليَ البال، ما دام الوطن سلعة يتقاتل عليها قادة ٌ أنانيون متخلفون همجيون، ومعارضون أكثرُ تخلفا وأنانية وهمجية.

وإلى أن تحين ساعة الافتراق بين الشيعة والسنة، سيظل البسطاء الأبرياء يدفعون ثمن هذه الوحدة الوطنية القسرية الكاذبة، من دمائهم ومن أرزاقهم ومن أمنهم. فكيف يراد لهذا الحال أن يدوم؟؟؟

وبعد قليل سترحل أمريكا العسكرية عن العراق. وحتى إذا بقي بعضُها فلن يكون الآمرَ الناهي القوي القادر على إدارة الوطن من جديد، وضبط صراعات أطرافه المتقاتلة. وإذا كان طارق عزيز، أحدُ سلاطين العهد الماضي، قد أعلن عن غضبه من هذا الرحيل، فإن على كل واحد من السلاطين الجدد أن يتلمس رقبته كل صباح وكل مساء، إذ يجد ظهرَه مكشوفا بعد رحيل النصير الأمريكي القوي القادر على نجدته ومنع البعثيين والقاعديين من الوصول إليه. ويشك عدد كبير من الخبراء العسكريين العراقيين والأجانب في قدرة الجيش وقوى الأمن العراقية على وقف المفخخات، وحماية الموطنين العزل غير المحروسين من شرورها.

وبسبب هذ المأزق السياسي والأمني والعسكري سوف يزداد النزيف، وسوف تتفجر المناطحاتُ الدامية بين مناطق السنة ومناطق الشيعة، في يوم قريب أو بعيد، مهما حاول البعض أن يبعد شبح هذه المصيبة. عندها لن يكون مهربٌ من الافتراق.

أما الأكراد فهم في مأمن من كل هذا. فدَخْـل المواطن الكردي السنوي أصبح يضاهي بل يفوق دخل المواطن الأمريكي ذاته. وقادتُهم مشغولون بالبناء والتشجير والتعمير، وبتأسيس الجامعات، واستقدام أصحاب الخبرة وأرباب المال. ومن بعيد، من برجهم العاجي الساحر الجميل، يتفرجون على مسارح العاصمة، بصبر وهدوء. يجاملون هذا ويداعبون ذاك، لكنهم لن يمنحوا دعمهم العلني القاطع إلا لمن يوقع معهم عهودا موثقة بشأن النفط والبيشمركة وكركوك والمناطق المتنازع عليها. ولأن أيا من زعماء العاصمة غير قادر على أن يهبَ ما لا يملك، خوفا على شعبيته عند طائفته وقومه، فلن نصل إلى نهاية سعيدة وقريبة لهذه الدوامة المزعجة.

لهذه الأسباب كلها، وحرصا على الحد الأدنى المتبقي من علاقات الأخوة السابقة، وروح التفاهم والتناغم بين مكونات هذا الوطن، دَعُونا نؤسس ثلاث دول مستقلة تمام الاستقلال، شيعية في الجنوب والشرق، وسنية في الوسط والغرب، وكردية في الشمال، تلتقي معا في بغداد الموحدة المستقلة التي ستكون المقر الآمن الدائم للمؤسسات الفيدرالية التي ينبغي أن يتفق زعماء الجمهوريات العراقية (المتآخية) الثلاث على إقامتها لإدارة الشؤون المشتركة، مثل النفط والمياه والكهرباء والغاز والمواصلات.

وكل دولة حرة في اختيار نظامها السياسي الذي يناسبها ويرضي مواطنيها، وحرة أيضا في علاقاتها. ومن حقها أن تكون عميلة أو حليفة أو صديقة لأية دولة قريبة أو بعيدة، دون أن يعيب عليها ذلك أحد من جيرانها.

وإذا كان النفط هو مصدرَ الشرور ومنبع الخلافات والصراعات القائمة حاليا، فألا يمكن اختراع صيغة عقلانية وحضارية تجعل النفط وغيره من الثروات الاستراتيجية الأخرى مِلكا مشتركا بين الدول الثلاث، وُتقتسم عوائدها مثالثةً ً، ووفق جداول تعداد النفوس، على أن تـُحصر صلاحية ُ استثماره وتسويقه بهيئة مشتركة يديرها خبراء مهنيون من الجمهوريات الثلاث؟؟؟ عند ذاك فقط ستسقط ذرائع الاقتتال والاحتراب. فلن يكون هناك، مثلا، صراع ٌ على رئاسة الجمهورية، ولا مبرر للتكالب والاقتتال والاشتباك على رئاسة الوزراء ولا على رئاسة البرلمان، فكل دولة سيكون لها رئيس جمهوريتها ورئيس وزرائها ورئيس برلمانها العتيد.

مؤكدٌ أن تأسيس الدول الثلاث سيأخذ وقتا طويلا وكثير من الألم وعرق الجبين وبعض الدم، خصوصا عند ترسيم الحدود وترحيل الراغبين في الرحيل من جمهورية إلى أخرى. إلا أن الخلاص النهائي يستحق كل جهد وكل تعب وكل عذاب. ويقول المثل، وجع ساعة ولا وجع كل ساعة.

ورغم أن هذا مجرد حلم ضعيف، ومشكوك في قابليته للتحقيق، في ظل قيادات من نوع ما لدينا اليوم، إلا أنه لو حدث، بمعجزة، لتم اقتسام الوطن بسهولة وهدوء وسلاسة، ولأمكن إلحاق المدن والقرى ذات الأغلبية الكردية في كركوك والموصل بدولة كرستان، وضم المدن والقرى ذات الأكثرية السنية في ديالى وكركوك بالدولة السنية، ودمج المدن والقرى ذات الأغلبية الشيعية في الحلة وديالى وكركوك بالدولة الشيعية، بلا حروب ولا وجع راس ولا مؤامرات ولا دسائس ولا جدل عقيم.

عند ذاك فقط سيجد المواطن البسيط، شيعيا كان أو سنيا، عربيا أو كرديا، مسلما أو مسيحيا، أن رزقه قد زاد، وأمنه تحقق، وأنه وَجد، في ظل التقسيم، خيراتٍ وفوائدَ ومكاسب لم يكن يحلم بأي منها في ظل تلك (الوحدة الوطنية) المقدسة. وأهمها وأنفعها أنه سيختار نوابه وحكامه بحرية كاملة، بعد أن يتحرر من ضغوط مخاوفه الطائفية. ففي انتخابات (الوحدة الوطنية) الأخيرة كان الناخب السني، مثلا، محكوما بطائفيته، فاختار نوابا سُنة لا يصلح الواحد منهم لقيادة عنزتين. والشيء نفسه حدث في مناطق الشيعة. بالمقابل لم يكن الناخب الكردي خائفا من هيمنة مرشحين من خارج كردستان، فاختار ممثليه بحرية، الأمر الذي مكن معارضين للحزبين الكبيرين من الفوز بعدد لا بأس به من مقاعد البرلمان.

جربتم الشراكة الوطنية ثمانين عاما، فلم تحصدوا فيها غير الدم والدموع، فلماذا لا تجربون القسمة، فلعلها تكون الضارةَ الآن، والنافعة في الغد؟؟؟

نصيحة أخيرة مخلصة. عجلوا بها، بقراركم الذاتي المستقل، وبالنية الصادقة، قبل أن تجعلها الأيدي الخفية باهضة الثمن، وتجبرَكم على إنجازها عبر حروب أهلية مدمرة أنتم وأهلكم في غنى عنها، وغير قادرين على تحمل أوزارها.

هذا ما يقوله المنطق السليم، والمصلحة الحقيقية لسكان هذه البقعة المسكونة بالأرواح الشريرة، دون خيالات وقصور هوائية، ودون شعارات وطنية أو قومية فارغة لا تصدر إلا عن متخلفين ومجانين، أو مغرضين ومنافقين.