سافر، ففي السفر عشر فوائد، هكذا كان يقول الإمام علي بن ابي طالب. فعلا ً، ففي السفر فوائد كبيرة، تغني الإنسان بتجارب كثيرة، لتصبح رصيدا ً من الخبرة لذلك الإنسان فيكون أكثر حكمة وحنكة في سلوكه وتصرفاته. لكن السفر هو الغربة، وللغربة ضريبة لابد أن يدفعها الإنسان، وهي أن يعيش وحيدا ً بعيدا ً عن الأحبة والأهل والوطن. فثمن الغربة فيه من القسوة مايشق الصخر إن يشهق صوت من الحنين في داخل الروح، خصوصا ًعندما تكون الغربة إجبارية كالنفي، في هروب من نظام جائر أو طلب رزق لضيق الحال.

أما العراقيون، فقد أصابهم من الغربة الشيء الكثير، فمن ترحال لترحال إلى ترحال. ومن محطة لمحطة فمحطة أخرى، والسكة لايبدو أن لها نهاية. لاأريد أن أدعي بأن العراقيين أكثر الشعوب إلتصاقا ً بالأرض، وأعمقهم شعورا ً بالغربة من غيرهم، وذلك لأنه لايوجد مقياس موضوعي لذلك. لكن الثابت أن العراقيين لم يعرف في تاريخهم الحديث عن هجرة جماعية بهذه الكثرة كما يحدث منذ ثلاثين عاما ً حتى الآن. لكن الغربة بماتحمل من قسوة فهي تفتح آفاق كثيرة لبث الحياة من جديد لثقافتنا بعد التعايش مع ثقافات جديدة لشعوب أخرى. فلاخوف من الشعور بالغربة إذا ً، ولكن الخوف كل الخوف من الشعور بالإغتراب!

فإذا كانت الغربة هي الشعور بالنفي المكاني من خلال البعد في المسافة، وهذا شيء قاس، فإن ما أقسى منه هو الإغتراب، وهو الشعور بنفي الذات عن المحيط الذي تعيش فيه، ويشمل هذا المحيط العلاقات الإجتماعية والثقافة السائدة. الإغتراب هو الشعور بالإحباط والعجز عن الفعل وعن التغيير.هو شعور بالقلق في الإنتماء للوطن والثقافة والمجتمع، لينتج هوية قلقة مضطربة لاتعرف معنى الإستقرار. أن الإغتراب ليس له علاقة بالقطيعة مع المكان بل هو قطيعة مع الثقافة التي ينتمي إليها الفرد، أو قل الشعور بالقطيعة مع المجتمع، أي مع المحيط الخارجي من عائلة وجيران وأصدقاء، فيؤدي ذلك لشعور بالوحدة القاسية، والشعور بالعزلة والغربة في أرض الوطن. إن الشعور بالإغتراب هو نتيجة لفقدان شيء أو ضياع شيء ثمين، كنتيجة لأزمة أو حرب أو نقلة نوعية أو منعطف في خط الحياة يمر به الإنسان، ليجد الإنسان نفسه ووجوده مهدد إلا بعودة ذلك الشيء المفقود. إن البحث عن هذا الشيء المفقود هو بحث عن الذات للتخلص من الشعور بالإغتراب. إن نتائج الإغتراب خطيرة وكبيرة على الفرد والمجتمع.

أما من الناحية التأريخية، فإن فكرة الإغتراب (alienation) بدأت مع الفيلسوف الالماني هيجل. حيث يقول هيجل إن الإنسان ينفي ذاته (subject) عن نفسه، كفاعل، فيتحول إلى موضوع (object)، أي مفعول به، في رحلة هدفها البناء والتكامل الروحي. فعندما يتحول الإنسان إلى موضوع يكون حينها غريبا ً عن محيطه، فيشعر الإنسان بالإغتراب عندما يشاهد نفسه عن بعد كإنه خارج عنها. ولاينتهي هذا الشعور بالإغتراب إلا حينما يرى الإنسان نفسه و موضوعه متطابقان وذلك من خلال خلق هوية ثابتة تخصه هو وحده من خلال شيء آخر، كالعمل أو الوطن أو المال أوهواية معينة. فهي رحلة للبحث عن الذات والهوية، وذلك من خلال موضوع ثالث ليتحقق ذلك التطابق، أو رحلة لإستعادة الإنسانية الضائعة لذلك الإنسان من خلال إثبات أن للإنسان ذات وهوية، وهو فاعل وقادر على تغيير نفسه والأشياء من حوله، فالإنسان ليس فقط موضوع يتم إستغلاله من قبل النظام الحاكم أو باقي المؤسسات كالعائلة والعشيرة، بل هو كائن له وجود ويجب على الكل الإعتراف بهذا الوجود. إذا ً، هي رحلة تبدأ من الذات فتمر بالأشياء، لتعود للذات مرة أخرى، لكنها تحمل شيئا ً ما معها هذه المرة. هذا الشيء يعطيها معنى الوجود، فتصير قيمة هذا الإنسان بهذا الشيء.

بعد هيجل قام لاودويج فيورباخ بإستخدام نظرية الإغتراب من أجل ليس نقد الدين فحسب بل نفي وجوده. فتهدئة خواطر الإنسان عن القلق الوجودي، وتحقيق الحلم لعالم أفضل يمر من خلال خلق موضوع يقوم الإنسان بعبادته كإله خالق لذلك الإنسان. وبعد ذلك يتحول الإنسان نفسه لموضوع مفعول به والدين إلى فاعل متحكم بمصير ذلك الإنسان. فحسب رأيه فإن الإنسان من يصنع الدين وليس العكس. بعد ذلك يقوم كارل ماركس بإستخدام النظرية فيحول العامل في المصنع إلى موضوع مفعول به، وقيمته فيما ينتجه من سلع. فلكي يسترد الإنسان قيمته وإنسانيته فلابد له أن يسترد قيمته التي يسرقها صاحب العمل البرجوازي. وعلى هذا الإساس يظل الإنسان يشعر بالإغتراب مالم يقم بإسترجاع قيمته من صاحب العمل بأي شكل من الاشكال. وهنا يحدث التطابق بين الذات والموضوع.

إن الأزمات التي مر بها الإنسان العراقي، والتي مازالت مستمرة حتى الآن، جعلته يفقد الكثير ويضيع الكثير. فخلال تلك الأزمات مرت الثقافة العراقية بإهتزازات خطيرة هددت وجودها وإهتز المجتمع العراقي في بنيته، برمته من شماله لجنوبه. فتغير مفهوم الهوية والشعور بالإنتماء من الإرباك للحيرة. فمن مفهوم الوطن الذي لايعرف إتجاهه شرقا ً أم غربا ً، إلى مفهوم القبيلة والطائفة والمنطقة. تلك تحولات خطيرة مر بها الفرد العراقي جعلته يشعر بالإغتراب. فترى سرقة الوطن بإسم الوطن، من كل الحكومات التي مرت على حكم العراق، ماهو إلا تدن خطير لهذا المفهوم الضائع. فتحول الفرد العراقي لموضوع مفعول به تحت سلطة تلك الحكومات أو سلطة القبيلة أو الطائفة. فثقافة الاإنتماء جعلته ينتقم من نفسه وذلك بإيذائها، وأبسط مثل على ذلك هي حالات النهب والسلب لمؤسسات الدولة بعد سقوط النظام السابق، و حالة الفساد المنتشرة بكثرة والقتل والتدمير. إنه فعلا ًشعور بالاإنتماء والقطيعة مع القيم والمبادئ السابقة التي كانت تحملها الثقافة العراقية.

والآن، على العراقي أن يسافر ليبحث عن ذاته ويتحول من موضوع مفعول به فحسب، إلى فاعل وذات، فيستطيع أن يغير نفسه وماحوله من خلال إثبات هويته. عليه إن يسافر ليس لمكان ما، بل في أعماق نفسه لينصت لصوت الفطرة التي فطره الله عليها ليجد تلك المفاهيم الحقيقية عن مفهوم الوطن. عليه أن ينفي ذاته بوعي كامل، ويرى نفسه عن بعد، ليعود إليها حاملا ً معه معنى جديد للحياة والوطن. ليس وطن تلك الحكومات المتعاقبة التي لاتمثل سوى أحزابها، بل الوطن، المستقبل والمكان حيث الأحبة والثقافة التي تعطينا معنى الوجود والحياة. تلك الثقافة التي نحملها معنا في كل مكان، أينما ذهبنا، تعلمنا كيف نسلك، وتزودنا بطريقة تفكيرنا.

لكن هذا السفر، سفر البحث عن الذات والقيمة الإنسانية في مفهوم الوطن، لابد له من بوصلة. إن بوصلتنا هي مثقفينا الذين تقع على عاتقهم مسؤولية إعادة بناء ماتهدم من ثقافتنا التي مزقتها الحروب. لنخلق إنسانا ً واعيا ً يعرف قيمة نفسه وقيمة الآخرين في محيطه. فعلى مثقفينا مسؤولية بناء جيل جديد من خلال بناء ثقافة جديدة تتلائم مع روح العصر ولاتتناقض مع المفاهيم الحديثة. عليهم نبذ خلافاتهم الطائفية والحزبية والمناطقية والبدأ بمشروع خلق إنسان عراقي يشعر بقيمة نفسه كفاعل وليس مفعول به.

[email protected]