أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت عام 1936م فاجأ الجنرال كويبو كيللانو أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على مدريد الثوار بقوله quot; هناك طابور خامس يعمل مع الوطنيين لجيش الجنرال فرانكو ضد الحكومة الجمهوريةquot; فيما كانت طوابير أولئك الثوار أربعة، وقد عنى بالطابور الخامس مؤيدي فرانكو من الشعب.

هذا الطابور الخامس هو العملاء الذين يوجدون في قلب المتصارعين وينقلون المعلومات العسكرية أو السياسية الى الطرف الآخر، على نحو ما تم الكشف عنه مؤخرا بالقبض على العميد اللبناني المتقاعد فايز وجيه كرم من التيار الوطني الحر للاشتباه بتعامله مع إسرائيل، وهو يخضع حاليا للتحقيق معه، كما أنه ليس الأول ولن يكون الأخير الذين يشتبه في تورطهم بعلاقات تجسس مع الكيان الإسرائيلي، واللافت في قضية هذا الضابط هو حساسية موقعه وأهمية رتبته فقد سبق أن ترأس فرع مكافحة الإرهاب والتجسس في الجيش اللبناني، وبحسب مجريات الطابور الخامس فهو أيضا ليس أول شخصية عسكرية لبنانية يتم توقيفها بشبهة التعامل مع إسرائيل.

قبل أن نرى أسباب عمالة شخص بحجمه لإسرائيل، لننظر أولا في تعليقه على اكتشاف عدد كبير من العملاء في الآونة الأخيرة، إذ قال: quot;مما لا شك فيه أن إسرائيل ما زالت تتربص شرّا بلبنان ومن المؤكد أن لديها الكثير من العملاء، لكن علينا أن ننظر في العوامل التي تدفع بهذا الشخص لكي يصبح عميلا، غالبية هؤلاء الأشخاص يعملون في المؤسسات الحكومية أو في الجيش، ورواتبهم متدينة ولديهم الكثير من المشاكل المادية، فتقوم إسرائيل باستمالتهم وإغرائهم، يستغلون إزدراء أوضاعهم، كما يهددون الشخص بعرقلة شؤونه وأعمال أولاده في الخارجquot;، وفي الحقيقة يبدو الرجل كمن يبرر لنفسه وليس لغيره، فجميعنا يعرف أن إسرائيل تتبرص شرا بلبنان وكل العالم العربي ومن يعترف بعدالة قضيته، ولذلك فهل يمكن لهذه الدولة أن تجند كل هؤلاء لصالحها؟!

قضية الرواتب المتدنية ليست مشكلة تفتح باب العمالة لمصراعيه لكل من يريد أن يجنّد جواسيس، فكثيرون لديهم ضمائر ووازع ديني وأخلاقي يجعلهم يرفضون المساومة على حقوق شعوبهم وبيعها بالرخيص لصالح العدو، ففي روسيا وهي إحدى القوى العالمية الكبرى لا يحصل الضباط والعسكريون الصغار على رواتب تكفيهم أسبوعا، ولكننا لم نسمع أو نقرأ عن بيع وطنهم ليشربوا الفودكا ويناموا على الحرير ويركبوا الطائرات في رحلات اصطياف الى جزر المحيطات البعيدة، وليست هناك من دوافع أخلاقية تمنح كل ذي منصب أو حتى مواطن بسيط للتفكير في بيع وطنه لمن يريد، لأن الأوطان لم تكن يوما سلعا في أسواق العمالة والتجسس، وانتشار الظاهرة في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة بحاجة الى دراسة لأن عمق القضية العربية الرئيسية فيهما، وعندما يكون أهل الشأن بهذا الوضع من الانهيار فذلك أدعى لتهاوي القضية.

ليس لبنان أو الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الجولان أراض رخيصة يتاجر بها من لهم دوافع ذاتية تكمل رواتبهم الى السقوف التي يطمحون لها على حساب القضية العربية، والتفكير عن الدوافع بهذه الطريقة يجعل كل من يكابد ويجاهد ليجد لقمة العيش مفتوحا على أي طلبات لإسرائيل أو غيرها، وكأن القضية quot;يا روح ما بعدك روحquot; أو أنا ومن بعدي الطوفان، ذلك تفكير إجرامي عميق يهيء ضعاف النفوس لينضموا الى الطابور الخامس الذي يجهض أي دور لتسوية القضية العربية والوصول بها الى حل عادل، والأمر أبعد من كونه خيانة صريحة، وإنما تعطيل لأي جهود كبيرة تتم للتسوية، وفي اعتقادي أن الجامعة العربية معنية بالوصول الى حل لظاهرة العمالة بالتنسيق مع دول المواجهة، لأن جهودها وجهود القادة العرب تصبح مكشوفة وغير ذات جدوى طالما أن إسرائيل تجد كل المعلومات الضرورية للتسويف وقراءة الأسرار العربية ككتاب مفتوح يجعلها لا تساوم وحسب وإنما ترفض، لأنها تتعامل بمعطيات أمامها دون أن تملك غموضا لا تعرف ما بعده بفضل المعلومات التي تحصل عليها من عملائها.

امتلاك المعلومة هو جوهر اللعبة السياسية وإدارة الشأن العسكري، وقد قال القائد البريطاني مونتجمري quot; ليس المهم أن تكون لديك المعلومات، المهم أن تعرف كيف تتصرف بالمعلومات؟ كيف تدير ما لديك من معلومات؟quot; وإسرائيل تحسن التصرف بالمعلومات التي تحصل عليها من طابورها العربي الخامس وتديرها جيدا سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، ولعل مما أبطأ بالوصول الى حلول معها عبر التفاوض هو امتلاكها معلومات ما كان ينبغي لها أن تعرفها، فالجهل بما لدى الطرف الآخر يقوّي ذاك الطرف ويجعله في وضع تفاوضي أفضل على قدم المساواة مع الآخر، ولكنها من خلال عملائها أصبحت الطرف الأقوى دوما فيما أصبحنا الطرف الأضعف لأننا مكشوفون لديها، وليس لدينا ما يعزز مواقفنا التفاوضية، والسبب أن راتب ضابط في الجيش اللبناني لا يكفيه لقضاء إجازة صيفية في الريفيرا الفرنسية أو الباهاما، أو أن صبيا فلسطينيا لا يجد ما يدخن به المارلبورو.

لا يمكن بهكذا دوافع للعمالة أن ننتصر، وليكن أننا لا نريد الانتصار أو نرغبه، فقط نريد استعادة حقوقنا، ذلك لن يحدث إذا كانت العمالة بهذا الرخص الأخلاقي والوطني، مطلوب مجهود عربي أوسع من الدول لدراسة الوضع، وعلى الجامعة العربية تأسيس أي وحدة معنية بمكافحة التجسس من منظور سيكلوجي واستراتيجي وتترك الجانب الإجرائي والعقابي للدول، وذات الدور تقوم به المنظمات العربية ذات الصفة الأمنية، لإنه بترك الأمور على هذا النحو سيغرقنا الطابور الخامس في أوحال الهزيمة النفسية والميدانية فيما هو يأكل الهمبرجر ويدخن السيجار الكوبي ويتناول حمام شمسي في المصيفات البعيدة وكأن شيئا لم يكن، فهؤلاء لا يشعرون بجرمهم ولو نسفت أوطانهم من الخريطة وأبيدت شعوبهم عن آخرها، وذلك فقط لأن راتبه لا يكفيه لشهر أو يجد صعوبة في دراسة أو عمل ابنه في أوروبا!.