يتوزع العلم إلى أبد الآبدين مع دالتين أو مفهومين لا قرار أو لا حدود لهما وهما: اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر lrsquo;infiniment petit et lrsquo;infiniment grand وكل منهما يقودنا إلى عدد لا متناهي من الأكوان ويتطلب عدد هائل من المعادلات الرياضية المعقدة والصعبة.
لا يوجد في هذا الوجود، وجود عبثي معدوم الغاية كما قال الفلاسفة القدماء. فتبدو الأشياء كما لو إنها قدرت بدقة لا متناهية قبل وجودها، وتحققت شروط معينة مسبقة تكفلت بتوفير الإمدادات بقدر كافي من العناصر الكيميائية المختلفة والضرورية لإيجاد الكتلة الحية أو الخلايا العضوية الحية، وهذه العناصر هي الكاربون والهيدروجين والأوكسجين ـ حيث يتولد الماء السائل أوالمتجمد من هذين الأخيرين ـ والنتروجين أو الآزوت والكبريت والفسفور ، إلى جانب مصدر طويل الأمد من الطاقة ـ من الشمس ـ وتربة وبيئة مستقرة مناخياً لفترة زمنية تمتد لمليارات السنين، لكي يحدث التطور من الشكل المجهري وما دون المجهري إلى الشكل الإلهي مروراً بالشكل البشري، وفق فرضية المبدأ الإنساني الكوني أو الأنثروبيا الكونية Lrsquo;entropie cosmique. هذا هو ملخص الفكرة التي طورها جون باربو وفرانك تبلر John Barrow et Franck Tipler في كتابهما الذي يحمل نفس العنوان quot; المبدأ الإنساني الكونيquot; والذي أثار سجالاً قوياً واعتراضات في الوسط العلمي حيث اعتبره بعض العلماء محض هراء شبه ديني ميتافيزيقي. كان هناك بعض العلماء ممن يؤيدون المبدأ الأنثروبي القوي Principe anthropique fort بالرغم من انعكاساته الميتافيزيقية إذ تبناه عدد من العلماء والفلاسفة رغم ما يوحيه بشأن وجود الخالق. أما المبدأ الأنثروبي الضعيف Principe anthropique faible فيقول نحن نعلم بأننا موجودون وإن خصائص الكون يجب أن تنظم على نحو ما من أجل تعزيز وجودنا حسب عالم الفيزياء النظرية ترينه شوان تيان Trinh Xuan Thian . كما كان العالم فريمان دايسون Freeman Dyson يصرح بالقول بأن الكون يعرف بطريقة ما بأن الإنسان سيظهر في ثناياه. في حين قال يوجين فيغنر Eugegrave;ne Wigner لا تصدقوا فعالية الرياضيات لوصف العالم . وأضاف إليه آينشتين Einstein قائلاً إن ما هو غير مفهوم هو أن العالم أمر مفهوم. وبالمقابل، في مجال نفي مبدأ الانثروبي Neacute;gation du principe anthropique ، قال العالم البيولوجي جاك مونود Jacques Monod :ظهر الإنسان عن طريق الصدفة في الكون الذي يبدو غير مبال بوجوده. وقبلهم تجرأ المفكر الحر وشهيد العلم جيوردانو برونو 1548-1600 Giordano Bruno في حواره مع جلاديه من رجال الدين قائلاً: الكون لا نهائي. فرد عليه رجال الدين :الله وحده هو اللانهائي، فأجابهم: الكون اللانهائي وحده هو الذي يليق بإله لا نهائي. وكان العالم الفرنسي بليز باسكال 1623-1662 Blaise Pascal قد نوه قائلاً: يتواجد البشر في منتصف الطريق بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر l'infiniment grand et l'infiniment petit.
فالثوابت الجوهرية في الطبيعة وتوفر الشروط الأولية والأساسية لظهور الحياة بدت وكأنها معدة بانتظام وتناسق وتناغم غاية في الدقة لكن ظاهرة الحياة لا تقتصر على وجودها بالشكل الذي نعرفه على الأرض فقط فهي بكل تأكيد حسب اعتقاد فطاحل العلماء، موجودة حتماً في كل مكان في أرجاء الكون المرئي المرصود. فلو كان معدل التوسع الكوني في البداية قد تعرض لانحياز أو تعديل ولو بنسبة 10-40 لتبعثرت المادة الأولية في الفراغ ولما تمكن الكون المادي المرئي المرصود من توليد المجرات والنجوم ناهيك عن إيجاد الحياة.
ولإعطاء فكرة عن دقة البرمجة والتنظيم الكونيين يمكننا تخيل لاعب غولف يتمكن من قذف كرة الغولف من الأرض ويجعلها تسقط داخل ثقب صغير يتواجد في مكان ما على سطح كوكب المريخ، أو بدقة رامي السهم الذي ينجح في أن يصيب سهمه هدفاً لاتزيد مساحته عن سنتمر مربع واحد 1 cmsup2; موجود على الجانب الآخر من الكون المرئي على مسافة 15 مليار سنة ضوئية، طبعاً من المستحيل تخيل مثل هذه الدقة والضبط اللامتناهيين ومع ذلك فهما موجودان بالفعل في الكون المرئي المرصود.
فالتطور والتقدم الذي أنجز في العقود الأخيرة في مجال فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، وبالتوازي منها التطور والتقدم الذي تراكم في مجال علم الكون، وعلى الأخص الأبحاث المتعلقة بفرضية الانفجار الكبير الحار الذي أنجب لنا الكون المرئي، قادت علماء الجسيمات les physiciens des particules وعلماء الفلك les astrophysiciens وعلماء الكونيات les cosmologues للتعاون بينهم على نحو وثيق.
لقدت بدت قوانين الفيزياء في الآونة الأخيرة أقل شمولية وإطلاقية وتراكمت براهين وأدلة على أن بعض القوانين ، إن لم تكن صحيحة ومطلقة ، فهي على الأقل قوانين فعالة وصالحة التطبيق في شكلها الشائع والمألوف عند الطاقات المنخفضة إذا ما قورنت بالطاقة العنيفة والهائلة التي كانت موجودة لحظة الانفجار الكبير. وقد تتباين أشكال تلك القوانين من منطقة كونية إلى أخرى في نطاق الكون المرئي المادي المرصود . حيث كل منطقة كونية تبدو وكأنها كون مستقل بذاته، وتشكل تلك المناطق الكونية الشبكية مجموعة من الأكوان الجيبية العجيبة التي تتمتع بخصائص متغايرة وربما بقوانين فيزيائية مختلفة أو متباينة.
هناك حدود في العمق الزماني الكوني لم نتمكن لحد الآن من تجاوزها بالرغم مما نملكه من أدوات وأجهزة للرصد والمشاهدة التي تبدو بدائية رغم ما حققه البشر من تقدم تكنولوجي في نهايات القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. والمعروف أن الضوء لم يتمكن من الانتشار بسهولة وحرية في الفضاء خلال فترة الـ 380000 سنة التي أعقبت الانفجار الكبير. فكثافة المادة كانت كبيرة جداً إلى درجة أن الفوتونات لم تتوقف عن التفاعل مع جسيمات الأولية للمادة على نحو جعل الكون الوليد غير شفاف أو مضبب opaque لايسمح باختراق ضوئه لمادته. إلا أن تزايد برودته أحدث تغيرا مستمراً وتدريجياً في بنيته بعد انتهاء فترة الـ 380000 سنة من التوسع . وعندما اصبحت درجة حرارة الكون المرئي 3000 كلفن تم احتواء أو أسر الالكترونات في إطار النوى الذرية البدائية حيث تكونت الذرات الحيادية أو المنعدمة الشحنة الكهربائية atomes eacute;lectriquement neutres وبما أن الفوتونات ضعيفة التفاعل مع الذرات تمكنت من التحرر والافلات والانتشار بحرية أكبر داخل الكون المرئي الذي بات منذ ذلك الوقت مرئياً بالفعل. وهذا الضوء الأولي هو ما يعرف اليوم بإشعاعات الخلفية الكونية الميكروموجية fond diffus cosmologique المنتشرة في كل مكان من الكون المرئي والتي اكتشفها آرنو بنزياس وروبرت ويلسون Arno Penzias et Robert Wilson سنة 1964 ،ولم تصل إلينا بعد، أية إشارة كهرومغناطيسية من تلك الفترة الأولية البدئية للكون المرئي.
فالنموذج المعياري Modegrave;le standard يقول لنا أن التوسع الكوني تسارع بصورة متجانسة ومتماثلة ومضبوطة بدقة وبالتساوي كما إنه سينكمش ويتقلص بنفس الطريقة وبنفس التناسب لذلك لا يد من وجود قوة مضادة لكل قوة كونية معروفة، فمقابل الثقالة أو الجاذبية الكونية الشاملة توجد حتماً طاقة طاردة تأتي من منطقة الفراغ النجمي vide sideacute;ral إلا أن هذه الفرضية تعطي قوى عالية جداً تؤدي إلى تمدد وتوسع أكبر وأعنف بكثير مما أمكننا من رصده وقياسه، من هنا كان لا بد من افتراض وجود طاقة بلانك l'eacute;nergie de Planck لموازنة طاقة الفراغ المشار إليها أعلاه والمرصودة حالياً، حيث قدرت طاقة بلانك بـمعامل أو ثابت 10122 والذي يعني واحد متبوعاً بمائة وإثنان وعشرون صفراً. وهكذا صار بلانك وأبعاده وثوابته الحد الأدنى الممكن في الكون المادي القابل للرصد والدراسة والقياس. ووحدات بلانك المتفق عليها في كافة المعادلات الرياضية هي :
ثم جاء العالم فريدمان Friedmann ليضع معادلته الشهيرة التي تلخص الكون المرئي رياضياً والتي تحتوي على الثابت الكوني Klambda; الذي يمثل في الحقيقة التحدب أو الانحناء السطحي للمكان أو الفضاء. وهذه المعادلة هي: T*sup2;/ Omega; =[0,68.G.rho;'u / csup2; ] + [0,34.Klambda;] - [0,03.H0sup2;. / csup2;]
حيث H0(s-1) هو ثابت هابل paramegrave;tre de Hubble و T*(rad/m) هو إنحناء أو تحدب الكون courbure de lrsquo;univers و G(m3-sr/kg-ssup2;)هو ثابت الثقالة أو الجاذبية والذي يقدر بـ [8,385.10-10 m3-sr/kg-ssup2;] و c(m/s) هو ثابت آينشتين constante d'Einstein والذي يقدر بـ (2,99792458 .108 m/s) و(sr) هو الزاوية الصلدة التي تحدث فيها الظاهرة أي prod;sr و D*(m/rad)هو نصف قطر التحدب أو الإنحناء الكوني rayon de courbure de lrsquo;univers و Klambda;(sr/msup2;) هو الثابت الكوني constante cosmologique المقدر بـ (5.10-52 uniteacute; S.I.+ ) و أخيراً 'u(kg/m3) الذي يمثل الكتلة الحجمية للكون. يمكننا وصف باقي الثوابت والكميات التي تتوقف عليها دالة المتغيرات المستقلة بهذه الطريقة فعلى سبيل المثال ثابت الجاذبية constante de la gravitation G يساوي 6.673x10-11 m3/kg.s2 لكنه معروف ومشهور أكثر تحت صيغة CGS : 6.673 x 10-8 cm3/g.sec2 توصلنا لنفس النتائج ولكن بطرق أكثر تعقيداً . فيما يتعاطى قانون الثقالة أو الجاذبية الكونية لنيوتن l'attraction universelle de Newton مع ثابت G constante G الذي يقول أن قوة الجذب بين كتلتين F كرويتين m1 و m2تعادل Gأي Gm1m2/d2 وبالتالي فهي G = Gm1m2/d2. إذن فإن شيء ذو كتلة m1 يمثل تسارع وفق المعادلة التالية a = F/m1 = Gm2/d2 وعلينا أن نعتبر أو نعامل الكتلة هنا بمعزل عن المكان والزمان وهي مكممة في الأبعاد [M]. وهكذا مع ثلاث مفاهيم مختلفة في المعادلة ، حيث ينطوي التسارع على الطول المكاني والزمان ، نحتاج إلى ثابت أكثر تعقيداً، وبصيغة التحليل البعدي analyse dimensionnelle فإن G يمثل الأبعاد التالية [L3]/[M][T2]. فمع ماهية مجردة عن المادة او تصور مفهومي Un concept بنفس الأبعاد لكنه يحتوي على ثابت سرعة الضوء c هو الذي أصبح فيما بعد ما عرف وأشتهر بأنه نظرية النسبية العامة لآينشتين la theacute;orie de la relativiteacute; geacute;neacute;rale d'Einstein التي هي في الحقيقة نظرية عن الثقالة أو الجاذبية التي اعتبرت نظرية نيوتن حالة محدودة فيها. هل يمكن التخلص من ثابت الثقالة G باستبدال الـ [L3]/[M][T2] بقيمها اللامتغيرة ([h] = [M]*[T] = 1 et [c] = [L]/[T] = 1) وبعملية الاستبدال سوف نحصل على [G] = [L2]. وبالرغم من كون هذا الأخير ليس غير متغير ne soit pas invariant فإننا سنكتشف أن المقدار أو الكمية GM/d2 تضم نفس أبعاد الطول التي في ct. استميحكم عذرا في غرقي بهذه التفاصيل التقنية والرياضية التي قد لا تهم القاريء غير المتخصص لكنني لم أستطع تفاديها لأسباب يتعذر علي شرحها هنا والعرض طويل ومعقد بغية فهم العلاقات القائمة بين المعطيات العلمية الفيزيائية التي تتضمنها القوانين والمعادلات الرياضية فكلنا بات يعرف بفضل هذه العمليات الرياضية المعقدة أن نصف قطر شفارزشايلد لثقب أسود le rayon de Schwarzschild على سبيل المثال، يصف العلاقة الدقيقة بين كتلة الثقب الأسود و نصف قطر أفق الحدث فيه وسرعة الضوء وفق المعادلة التالية التي يكون فيهاG هو ثابت الثقالة أو الجاذبية و M هو كتلة النجم المنهار والمتحول إلى ثقب أسود و C وثابت سرعة الضوء .
- آخر تحديث :
الكون الكلي 5
في البدء كانت المادة الجماد لكنها في حالة حراك وهيجان، في هيئتها مادون الذرية، وفجأة حدث التغيير وانتقلت المادة من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر كما يقول العلم. ومن هنا فرض التقدم العلمي حقيقة أن هناك صلة جوهرية بين، الجسيمات الأولية التي تخصصت بها فيزياء الجزيئات أو الجسميات وميكانيك الكموم أو الكوانتا،من جهة، وطبيعة الكون المرئي المرصود في بداياته الأولى التي صاغها النموذج المعياري modegrave;le standard ، من جهة أخرى. فدراسة الجسيمات وكشف قوانينها يساعدنا على فهم الكون الأولي البدئي وسبر أغواره وكشف أسراره. كمااعتقد العلماء أنهم إذا وفروا الشروط التي كانت سائدة إبان الانفجار العظيم في مختبرات عملاقة كمختبر أو مصادم الجسيمات LHC في سيرن CERN فإنهم سوف يتمكنون من خلق كون مجهري على غرار كوننا المادي البدئي قبل توسعه وتضخمه وامتداده المستمر إلى يوم الناس هذا منذ حوالي 13.7 مليار سنة. إن هذا الاعتقاد يستند على مسلمة أن الظروف والشروط الفيزيائية تغيرت على امتداد التطور الكوني وأخذت أبعاداً ونسباً يتعذر قياسها اليوم بيد أن القوانين الجوهرية الفيزيائية ظلت كما هي عليه منذ ظهورها للوجود.
يتبع
التعليقات