هناك واقع ظاهر أو مرئي وهناك واقع خفي أو مخفي فأيهما حقيقي وأيهما وهمي؟ بات من الشائع في المخيلة الجمعية لدى عامة الناس غير المتخصصين بأن البيغ بانغ Big Bang حدث بالفعل في لحظة زمنية ما على شكل انفجار هائل، على غرار انفجار القنبلة الذرية، وإن هذا الحدث وقع في نقطة الصفر التي ولد عندها الكون، وهو بالطبع انطباع أو تصور خاطيء، وقد حاول بعض علماء الفيزياء الفلكية وعلم الكون بلا طائل إزالة هذا الوهم من أذهان الناس من أمثال ميشيل كاسيه Michel Casseacute; وهيوبير ريفيز Hubert Reeves على سبيل المثال لا الحصر. ولقد استغل رجال الدين والمؤسسات الدينية الرسمية هذا اللبس ليثبتوا صحة أطروحتهم في عملية خلق الكون من قبل خالق موجود خارج الكون وقبله، حيث بدأت عملية الخلق بإرادته بهذا الحدث الذي سمي بالانفجار الكبير. فعملية الربط بين هذا الحدث الفيزيائي المحض وقضية خلق الكون فتحت المجال أمام الجميع للتساؤل عما كان موجوداً قبل الانفجار الكبير. والحال أن هذا السؤال لا معنى له لو اعتبرنا أن كل شيء، المكان، والفضاء، والزمان، والمادة على هيئة الجسيمات الأولية، والطاقة، ظهروا كلهم في نفس الوقت مع ظهور الزمان الذي نعرفه لذلك من العبث تخيل مرحلة تسبق ظهور الزمان وبدايته. لذلك كان القديس أوغسطين saint Augustin ذكياً في تعامله مع هذه المسألة عندما قال quot; إن الكون خلق مع الزمان وليس داخل الزمانquot;. وعندما طرح عليه سؤال محرج: ماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق الكون؟ أجاب:quot; لم يكن هناك زمان قبل خلق الكون لأن الزمان ليس سوى خاصية من خصائص الكون ومكوناته وإن الله بأبديته وأزليته غير مرتبط بزمان وبالتالي لم يكن هناك زمن فارغ أو زمن بلا عالم ومن ثم انتشر الكون بداخله، وإذا أردتم معرفة ماذا كان الله يفعل قبل خلقه للكون أقول لكم إنه كان يعد جهنم أو الجحيم لأمثالكم من الملاحدةquot;. لكن المعضلة لم تحل فهناك من يسأل ما الذي تسبب في حدوث الانفجار الكبير في اللامكان واللازمان في قلب العدم؟ وهل للعدم قلب أو مركز؟ وهل تفجر العدم بنفسه لينبثق من رحمه الكون المادي؟ وبالطبع يبقى سؤال الكينونة قائماً إلى الأبد:quot; لماذا يوجد شيء ما بدلاً من اللاشيء؟ أو لماذا حدث انفجار كبير بدلاً من البقاء في حالة السكون المطلق في اللاشيء؟ وكيف يمكننا أن نتصور حالة ثالثة بين الكينونة وعدم الكينونة lrsquo;ecirc;tre et le non-ecirc;tre؟ وما أن نلج هذا التساؤل الفلسفي الوجودي حتى يطل الله برأسه ويدخل حلبة السجال من خلال مريديه كجواب بديهي لا مفر منه إذ يقوم هنا بدور مشعل فتيل الانفجار الكوني الكبير. بيد أن علم الكون الحديث cosmologie لا يناقش هذه المسائل الوجودية الميتافيزيقية meacute;taphysique أو الثيولوجية theacute;ologique وقد أعلن علماء الفيزياء صراحة أن الانفجار الكبير لا علاقة له على الإطلاق بعملية خلق الكون وإنما هو مجرد مرحلة مر بها الكون المرئي فلا وجود لواقع فيزيائي يسمى اللحظة الأولى في سياق ما يسمى بماضي الكون وإن اللحظة صفر ليست سوى تصور أو بناء نظري محض construction purement theacute;orique بولغ في دورها وهي ليست توقيت حقيقي أطلق مسيرة الزمان الفيزيائي الذي نعرفه. فلا يمكن لأية نظرية في علم الكون أن تطرح فرضية أن أصل الكون يكمن في فرادة ما quelconque singulariteacute; أو إنفجار أولي explosion initiale فاللحظة صفر هي ليست إعراض symptocirc;me لانفجار المادة بقدر ما هي تعبير عن إنهيار نظرية النسبية العامة التي عجزت معادلاتها الرياضية ولم تكن قادرة على وصف الماضي الأقدم للكون الذي ندرسه ونعيش فيه. فمعرفة البدايات الأولية الحقيقية للكون تتطلب اجتياز أو عبور ما سمي بجدار بلانك mur de Planck الذي يحدد لحظة محددة ومتميزة من تاريخ الكون شكلت مرحلة مر بها الكون تقف عندها النظريات العلمية عاجزة عن وصفها ووصف ما حدث عندها. فهذا الجدار هو العائق الحقيقي الذي يمنعنا من معرفة أصل الكون لو كان هناك أصل بالفعل. فكل المفاهيم الفيزيائية التي نعرفها تتعطل عند حدود هذا الجدار فهي تصلح لوصف ما يوجد بعد الجدار وليس قبله، فكل مفاهيمنا عن الزمكان تتعطل عند هذا الجدار وعلينا أن ننتبه إلى أن جدار بلانك ليس جداراً فيزيائياً حقيقياً بالمعنى الحرفي المباشر للكلمة إنما هو معطى نظري حسابي أو رياضي وهو بالتالي موضوع تحدي أمام العلماء والباحثين في هذا المجال. حيث سيحتاجون حتماً إلى نظرية أقوى بكثير من النسبية العامة la relativiteacute; geacute;neacute;rale لآينشتينEinstein أو ميكانيك الكوانتا الكمومي la meacute;canique quantique الذي اقترحه ماكس بلانك Max Planck وهذه النظرية الجديدة الموعودة أو المنتظرة يمكن أن نسميها نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية theacute;orie quantique de la gravitation التي يمكن لمعادلاتها الرياضية، من الناحية النظرية البحتة، أن توحد، في إطار نظري واحد، الفيزياء الكمومية أو الكوانتية والجاذبية أو الثقالة، ولكن لا أحد يعرف كيف يمكن صياغة هذه النظرية. وهنا تقدمت نظرية الأوتار الفائقة ndash; theacute;orie des super cordes- superstring theory، ذات الأحد عشر بعداً، للقيام بهذه المهمة شبه المستحيلة لكنها لا تعدو كونها مجموعة معطيات وفرضيات رياضية وأفكار جديدة حول تركيب الكون من اختلاق الفيزياء النظرية. وتكمن خصوصية هذه النظرية في أنها تأخذ في الاعتبار جميع قوى الطبيعة: أي الثقالة أو الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة والشديدة، فتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الجامعة أو النظرية أم theacute;orie M. تصف هذه النظرية البنية الأوّلية للكون المرئي بمعادلات رياضية معقدة سنتناولها بالتفصيل لاحقاً، ولا تنطلق من العرض التجريبي المباشر للجسيمات الأولية في تفاعلاتها. فالمكونات الأولية للمادة وفق هذه النظرية مكونة من أوتار لا متناهية في الصغر، ذات بعد واحد تسمى الأوتار. وإن هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات تتشكل منها الجسيمات الأكبر منها ابتداءاً من الكواركات والغليونات، ومروراً ثم البروتونات والنيوترونات والإلكترونات وانتهاءاً بالذرات المركبة les moleacute;cules. فكل شيء بحسب نظرية الأوتار الفائقة هو نتاج نغمات وذبذبات لأوتار صغيرة جداً لا يمكن رصدها بأجهزتنا البدائية الحالية وسنتحدث بالتفصيل لا حقاً عن هذه النظرية المهمة.
تتعاطى هذه النظرية وغيرها من النظريات الفيزيائية مع نفس منظومة القوانين الكونية الجوهرية وثوابتها. ولو تغير قانون واحد أو ثابت واحد ولو بدرجة قليلة جداً عن قيمته المعروفة رياضياً فسوف تتغير كافة المعطيات الوجودية والمادية المعروفة في كوننا المرئي والمرصود. فلن توجد حياة ولن يوجد تطور. وهذا يناقض ما عرف في الفيزياء بمعامل غولديلوك Goldilock الذي تبدو القوانين وفقه ملائمة بالضبط وبدقة لا متناهية لنشوء الحياة على نحو حتمي في كل مكان في الكون المرئيK وعرف أيضاً بالمبدأ الإنساني الكوني lrsquo;entropie cosmique وهذا ما شجع على انتشار مبدأ الانثروبي الإنساني principe drsquo;entropie ndash; anthropic principale الذي يستند إلى مسلمة تقول بوجود التناغم الجيد والدقيق في قوانين الفيزياء، بعبارة أخرى التلميح إلى نوع من التصميم الذكي، الإلهي المنشأ بالطبع، مما أثار حفيظة العلماء الملحدين ودفعهم للبحث عن مخرج تمثل بتبني أطروحة الأكوان المتعددة بغية إيجاد تفسير لملائمة كوننا المرئي للحياة لأنها موجودة فيه بالفعل والدليل هو أننا هنا نناقش ذلك، وسنكرس حلقة كاملة لموضوع الأكوان المتعددة.
إن التعاطي مع منظومة القوانين الفيزيائية الكونية يتطلب معرفة الثوابت الكونية والفيزيائية العلمية المحسوبة بدقة لا متناهية لأن تلك الثوابت هي التي تحدد وتسير وتركب القوانين الجوهرية والنظريات العلمية، وهي ثوابت باتت معروفة اليوم ومن أشهرها ثابت نيوتن للثقالة أو الجاذبية constante de la gravitation G:، وهناك ثابت نظرية النسبية theacute;orie de la relativiteacute;الذي قرره آينشتين والمتعلق بسرعة الضوء C:constante de la vitesse de la lumiegrave;re، وهذين الثابتين يلعبان دوراً جوهريا في النسبية العامة la relativiteacute; geacute;neacute;rale باعتبار هذه الأخيرة نظرية عن الثقالة أوالجاذبية. وبالطبع هناك ايضاً ثابت بلانكH constante de Planck الذي قدر بهذه القيمة h = 6،626 068 74 times; 10-34 J.s والذي يدخل في الحسابات والمعادلات الرياضية التي تتعامل وتتعاطى مع الظواهر الكمومية أو الكوانتية pheacute;nomegrave;nes quantiques وتقف قيم هذه الثوابت عن حائط أو جدار بلانك الشهير mur de Planck الذي يشكل العقبة الكأداء أمام العلم لمعرفة ماقبل ومابعد، أي ما حدث قي الجهة الأخرى المجهولة للجدار وما حدث فعلاً وبالدليل العلمي القاطع ما بعد الجدار، أي من مرحلة الانفجار الكبير فما فوق. فقيمة بلانك، تقدر بـ (35- 10 ). وطاقة بلانك lrsquo;eacute;nergie de Planck على سبيل المثال تعادل عشرة مليارات المليار مرة طاقة كتلة بروتون واحد أي 1019Gev2بمعنى آخر أن المادة في مرحلة جدار بلانك كانت مضطربة ومهتاجة بصورة جنونية. وطول بلانك longueur de Planck يقدر بــ 35- 10 من المتر أي أقل من سبعة عشرة مرة بتسلسل نظام القيم ordres de grandeur من حجم إلكترون واحد أو حتى كوارك quark واحد وإن ما تحت هذا المقياس أو المسافة اللامتناهية في الصغر لن يكون هناك معنى للفضاء أو المكان الذي تصفه نظرياتنا الفيزيائية العلمية وكذلك يختفي الزمان الذي نعرفه عند حدود زمان بلانك temps de Planck والذي قدر بــ 43- 10 من الثانية، لذلك اعتاد الكثيرون على ترديد مقولة خاطئة تقول أن جدار بلانك يمثل الكون المرئي في اللحظة 43- 10 بعد الانفجار الكبير مما يعني التنويه إلى وجود الزمان صفر أو اللحظة صفر وهي غير موجودة فيزيائياً من الناحية العلمية إلى جانب أن مفهوم الزمان قبل جدار بلانك يصبح بحد ذاته إشكالية عويصة ومعضلة بقدر ماهو الحال بالنسبة للمكان أو الفضاء. أما سرعة الضوء أي ثبات النسبية العامة فقد قيست بدقة وهي Vitesse de la lumiegrave;re c = 299 792 458 m/s وكذلك ثابت الثقالة أو الجاذبية لنيوتن Constante de la gravitation G = 6،672 59 times; 10-11 m3 kg-1s2.
يتبع

[email protected]