من حق المواطن العراقي أن يطرح سؤالا يتعلق بمدى جدية نوري المالكي في دفاعه المستميت في ظاهره، عن عروبة المناطق (المتنازع عليها) مع سلطة إقليم كردستان، وخاصة كركوك، أو عن عرب هذه المناطق، وسبب توقيت هذا السؤال، أن المالكي باق في منصبه كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة، منذ عام 2006 وحتى اليوم فأين كان خلال هذه السنوات عن هذه القضية المركزية في تفكير كل عراقي لا يشاطر الساسة الأكراد رأيهم بكردية هذه المناطق التي تعد بحق لغما قابلا للانفجار في أية لحظة ليخلف وراءه مآس وآلاما لا حصر لها ولتضاف إلى ما عاشه العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، من انعدام للأمن والاستقرار وانتهاك لحقوق الإنسان، وفساد في الذمم المالية لكبار المسؤولين.
لماذا تحرك المالكي من دورة سباته السياسي في هذا الوقت بالذات؟ وخاصة بعد أن طفت على السطح السياسي مشكلات في غاية التعقيد بين أطراف التحالف الحكومي، فمن جهة برز الخلاف بين التحالف الوطني الشيعي الحاكم من جهة، وبين القائمة العراقية والتحالف الكردستاني من جهة أخرى، ثم بدأ الشرخ عموديا يفرض نفسه على المشهد القائم، وذلك عندما وصل الانقسام إلى داخل التحالف الوطني نفسه، والذي تمثل جانب منه في دخول التيار الصدري، في مواجهة كلامية لم توفر شيئا من مصطلحات السوق الجارحة والجديدة على عالم السياسة العراقي، على الرغم من أن التيار الصدري معروف بعدم ثبات مواقفه السياسية على بر معلوم أو موقف واضح، إذ أن التيار الصدري معروف بتغيير جلده كلما وجد في ذلك مغنما سياسيا، حتى باتت هذه من أبرز السمات التي يحملها التيار الصدري، ويبدو أن المواجهة الأخيرة غير مضمونة الاستمرار أيضا، ولكنها تنبئ بكشف الكثير من الفضائح السياسية وملفات الفساد وصفقات التخادم المتبادل، ومع ذلك فإن النزاع القائم يمكن يسوى على نحو غير متوقع، إلا أنه سيترك الكثير من الأنقاض السياسية فوق مسرح العمليات، لكن كسرا حقيقيا للعظم أو افتراقا حقيقيا بين الطرفين لن يحصل لعدة عوامل فاعلة وذات تأثير في المشهد السياسي العراقي، لا يمكن تخطيها أو تجاهلها، وخاصة العامل الإيراني الضاغط بقوة للحفاظ على التحالف بين القوى الطائفية المرتبطة بها والتي تؤّمن لها مصالحها وتعمل نيابة عنها لإنجاز مشاريعها الإستراتيجية، سياسيا وأيديولوجيا وثقافيا واقتصاديا وأمنيا، فمن المعروف أن التيار الصدري أنه كان قد أعلن في الماضي أكثر من مرة، أن عودة المالكي للحكم يعد خطأ أحمر بسبب التجربة الدموية بين الطرفين وخاصة في عمليات صولة الفرسان في عام 2008، ولكن التيار سرعان ما ابتلع موقفه ذاك، نزولا عند املاءات إيرانية، من دون أن يكلف نفسه تقديم تفسير لذلك التقلب الحاد بالمزاج السياسي للتيار.
وعاد المالكي للحكم مدعوما بقوة التيار الصدري في البرلمان وكذلك التحالف الكردستاني، ولينزع الفرصة من القائمة العراقية التي كانت قد فازت بالانتخابات، وعادت إلى أجواء العراق فكرة قدسية التحالف الشيعي الكردي وقدرته على فرض نفسه في الساحة العراقية كفروة يرتديها المالكي، كلما شعر بقسوة الريح الجديدة التي أخذت تهب عليه وعلى التحالف القديم، وكأنها إرهاصات لتحالف جديد يضم الأكراد وقوى سياسية تم تحميلها خلال السنوات الأخيرة مسؤولية ما لحق بالعراق من أزمات على المديين البعيد والقريب، وكلما اشتدت الضغوط على رموز دولة القانون حاولوا استمالة الأكراد بالحديث عن التحالف الشيعي الكردي عبر التاريخ الحديث.
لقد كان المالكي ومعه حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون، على ثقة مطلقة، بأنه إن لم يلتقط الفرصة ويعود إلى الحكم ولو بالتعكز على التحالف الكردستاني والتيار الصدري، فإن ائتلاف دولة القانون ستتعرض إلى تصدع وفي أقصى درجاته، لأن جميع المنضوين تحت مظلتها تدفعهم مصالح أو صفقات فساد مالي وإداري، وبالتالي فهم يبحثون عمن يؤمّنها لهم من دون الالتفات إلى بقية الالتزامات التي تفرضها قيم المجتمع، ولا يشك أحد بأن محاور الفساد الخفي تفوق بكثير ما تم تسريب أخباره حتى الآن، ولعل فضيحة صفقة السلاح الروسية أبرز الأدلة على أن من التحق بالمالكي إنما كان يبحث عن مثل هذه الفرصة الثمينة التي توفر أسرع طريق للإثراء السريع، ومع ذلك فإن كشف فساد هذه الصفقة ما كان ليتم لولا الدور الروسي من جهة ولولا الرغبة في التغطية على ملفات أكثر فسادا وأكثر سخونة تقف وراءها حيتان كبيرة ليست بعيدة عن مركز القرار الحقيقي في بغداد.
يبدو أن التيار الصدري شعر في وقت متأخر، أن حلفه مع المالكي خسارة له على كل المستويات وخاصة على مستوى رصيده الشعبي المفترض، فبادر لتوجيه رسائل من أجل تحسين فرصه داخل الحكومة أو المجيء بحكومة بديلة، وهذا ما حصل في الصيف الماضي حينما التقى ممثلون عن التيار والقائمة العراقية والتحالف الكردستاني في أربيل وبعد سلسلة اجتماعات تم الاتفاق على حجب الثقة عن المالكي، ولكن الأخير تحرك مدعوما بالمال السياسي والمادة 4 إرهاب لقمع بعض النواب الذين وجد أن استجابتهم للإغراء أو للتهديد أعلى من غيرهم، و التقى هذا الجهد مع دور إيراني ثنائي المحاور، الأول باتجاه التيار الصدري لمنعه من مواصلة هذا الخيار الذي رأت فيه طهران خطرا يهدد استمرار حكم التحالف الشيعي، ملوحة أنها ليست على استعداد للتساهل مع أي طرف يفعل ذلك، وبذلك نجحت إيران بإعادة الابن الضال إلى بيت الطاعة.
أما المحور الثاني فقد كان مع جلال الطالباني والاتحاد الوطني الكردستاني، إذ أشعرتهما بأن إسقاط حكومة المالكي سينظر إليه على أنه سابقة خطيرة تمس جوهر المصالح الإيرانية في العراق، لذا تميز أداء الطالباني لوظيفته كرئيس للجمهورية بكثير من الانحياز لطرف على حساب طرف على خلاف ما منصوص عليه في الدستور، فقد تعسف الطالباني كثيرا في استخدام صلاحيات الرئيس حينما طالب النواب بتقديم عرائض مكتوبة وبأسماء النواب المطالبين بحجب الثقة عن المالكي وتواقيعهم، وهنا دخلت اللعبة دهاليز مظلمة واستطاع ثنائي المالكي الطالباني تمييع القضية وتحويلها إلى أدراج المحفوظات، ولم تغفل إيران توظيف علاقاتها المتميزة مع جلال الطالباني، لتفكيك التحالف الذي كاد أن يطيح بالمالكي.
وبرزت إلى السطح فكرة حكم الأغلبية السياسية في رأس المالكي، وبدأ يوجهها كرسائل ترهيب سياسي لشركاته في العملية السياسية، ومن أجل أن يعطي لفكرته هذه بعض المصداقية الميدانية، افتعل معركة المناطق المتنازع عليها، وللأسف الشديد فقد صادف نجاحا ملموسا على محورين، الأول أن التحالف الكردستاني وبدلا من أن يفوت عليه الفرصة، استجاب لإغراء التحدي وطفق في حشد البيشمركة في المناطق التي قال المالكي إنه أرسل قوات دجلة إليها، أما المحور الثاني فقد حاول المالكي أن يظهر كمدافع عن حقوق العرب في مناطق سكناهم المهددة من قبل التحالف الكردستاني بالقضم والضم.
المشكلة في كركوك ليست ابنة لحظتها بل هي قائمة منذ نحو عشر سنوات، فأين كان المالكي عنها طيلة ذلك الوقت؟ وهل نجح في تحقيق خرق في جبهة القوى العربية في تلك المنطقة لصالحه ويحاول توظيف جهدها انتخابيا للعودة إلى ولاية ثالثة ولكن بقائمة أغلبية سياسية كما يطرح في الإعلام؟
نحن لا ننكر أن العرب في كركوك تعرضوا لمحن ونوازل شديدة، وإقصاء وتهميش ومطاردات من جانب البيشمركة وأجهزة الحكومة، ولم يجدوا من يوفر لهم الحماية اللازمة ليعيشوا في مدنهم وقراهم بأمن واستقرار، ولم يعثروا على القوة التي تدافع عنهم أمام تضافر أخطار متعددة النوايا ومتعددة الأهداف والتي كانت تريد تغيير التركيبة السكانية اثنيا لصالح مكون قومي على حساب آخر، لهذا فحينما طرح المالكي موضوع المناطق المتنازع عليها، سارع بعض العرب للترويج لهذه الفكرة المتسرعة وذات النوايا غير النزيهة، ونظروا إليها على أنها قارب النجاة الذي سيخلصهم مما هم فيه من محن، ولكنهم حينما يجربون البديل سيكتشفون أية خطيئة ارتكبوا بحق أنفسهم ومناطقهم حينما استبدلوا قوة غاشمة بأخرى غاشمة وربما تفوقها في بطشها وطغيانها، واستبدلت ذئبا قديما بذئب جديد ولكنه مختلف عنه في الشكل، وحين تتحول عملية تغيير التركيبة السكانية من طابعها القومي إلى طابع مذهبي، فإن كثيرا ممن رحب بدعوة المالكي سيجد نفسه وقد وقع فريسة لأسماك قرش لا ترحم أحدا، ومخطئ من يظن أن المالكي كان يدافع عن عرب كركوك أو غيرها من المناطق المختلف عليها، فهي مناطق تعاني منذ زمن طويل من أزمات متصلة، ولكن المالكي أراد توظيف هذا الملف لمعركة انتخابية.
مستشار المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية
- آخر تحديث :
التعليقات