المقولة الشهيرة المنسوبة إلى وزير الخارجية الأمريكية السابق هنري كيسنجر بأن لا حرب دون مصر ولا سلام دون سوريا يمكن تحويرها وتوظيفها لتوصيف الموقف الدولي الراهن من الأزمة السورية. حيث نستطيع القول بأن لا تدخل عسكري ولا حرب دون الولايات المتحدة، ولا حل دبلوماسي وسلام دون روسيا. فالولايات المتحدة أعلنت موقفها بشكل واضح وصريح منذ اللحظات الأولى للأزمة بأنها ليست مستعدة لتدخل عسكري مباشر وفاعل ينهي الصراع، وتتمسك بهذا الموقف رغم استمرار سقوط الضحايا المدنيين واستخدام النظام السوري كافة أنواع الأسلحة على مرأى ومسمع العالم.

واشنطن ومن ورائها العالم الغربي يصرون على هذا الموقف رغم محاولات دول إقليمية مساندة للمعارضة حثهم على تغييره من أجل وضع نهاية لمأساة الشعب السوري.

بل إن هناك من يرى أن الولايات المتحدة التي تتحجج بالمعارضة الروسية لعدم اتخاذ موقف دولي حاسم هي في حقيقة الأمر مرتاحة للرفض الروسي لصدور قرار دولي يؤسس لتحرك عسكري لان واشنطن ليست مستعدة لقيادة هذا التحرك وتحمل تبعاته.

وهناك جملة من الأسباب تطرح لتفسير هذا الموقف الأمريكي المتصلب ضد التدخل العسكري؛ من أبرزها أن واشنطن التي أجبرت على الخروج خاسرة من العراق ولا تزال متورطة في

أفغانستان في حرب لا يعرف لها نهاية لا تريد التورط في حرب جديدة. آخرون يرون أن الولايات المتحدة لا تريد الدخول في مغامرة عسكرية لا يعرف كيف تنتهي بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لسوريا وموقعها الجيوستراتيجي إضافة إلى الكثافة السكانية الكبيرة التي تجعل من الصعب تحديد أهداف عسكرية واضحة دون سقوط أعداد كبيرة من المدنيين. بل إن واشنطن تتحفظ حتى على تزويد المعارضة بأسلحة نوعية تغِير سير المعارك لصالحها خشية من وصول هذه الأسلحة إلى مجموعات متطرفة قد تستخدمها لتهديد المصالح الأمريكية. ولا يمكن أبدا تجاهل العامل الإسرائيلي في تفسير هذا الموقف الأمريكي الرافض للحل العسكري.

وفي محاولة لتخفيف الانتقادات المواجهة لها لعدم اتخاذ موقف حاسم يسهم في إيقاف آلة القتل اليومي في قرى ومدن سوريا تحرص واشنطن على إصدار بيانات وتصريحات ولغة تهديد أثبتت عدم جدواها في ردع النظام السوري.

إذاً موقف واشنطن واضح وصريح فهي لن تتورط في تدخل عسكري وليست مستعدة لشن حرب على قوات النظام السوري. ورغم وضوح هذا الموقف منذ البداية، إلا أن أصدقاء واشنطن الإقليمين راهنوا على حل عسكري ودفعوا باتجاهه وانتهى الأمر بهم إلى الوقوع في وضع حرج فلم يستطيعوا تقديم دعم عسكري كبير يقلب موازين المعادلة لصالح المعارضة بشكل سريع مما تسبب في استمرار هذه المواجهة غير المتكافئة التي لا يبدوا أنها ستنتهي قبل تدمير الدولة السورية.

إذا كان التدخل العسكري غير وارد وغير مرغوب أصلا للنتائج المدمرة التي سيتسبب فيها، فليس هناك إذاً سوى الحل الدبلوماسي وهذا لا يمكن الوصول إليه دون موافقة ومشاركة

موسكو. فروسيا هي الدولة الوحيدة التي لها دالة على النظام السوري وبدون دعمها القوي لم يكن ممكناً للنظام السوري أن يحافظ على تماسكه بعد هذا القتل والخراب.

ولكن نجد أن روسيا التي تصر على الحل الدبلوماسي لإنهاء الأزمة تضع العراقيل- بوعي أو بدونه- في طريقه من خلال تمسكها برؤية ضيقة للازمة وترفض التخلي عنها. روسيا تعلم أن الحل الدبلوماسي لا يمكن أن يتحقق مع استمرار بشار في السلطة. فبعد هذا القتل والتدمير وارتكاب المجازر في مناطق مختلفة من سوريا والتي كان غالبية ضحاياها من الأطفال لا يمكن للمعارضة على اختلاف توجهاتها التحاور مع بشار والقبول باستمراره حتى لمرحلة مؤقتة.

موسكو التي ترفض هذا الشرط الذي تضعه المعارضة للقبول بالمفاوضات لا تدرك أن رحيل الأسد لم يعد مجرد موقف سياسي لمعارضين لا يطيقون شخصه لأنه رمز لنظام تسلطي عانوا منه الأمرين، بل إن رحيله أصبح ضرورة ملحة يفرضها حقيقة القتل والتدمير اليومي المستمر منذ عشرين شهر تقريباً.

موسكو للأسف لا تقدر هذا الحاجز النفسي الهائل الذي يقف عائقا لفكرة الحوار مع بشار وهو حاجز تسبب بنفسه فيه من خلال إشرافه المباشر على آلة القتل والتدمير الوحشي. فيكفي أن ننظر فقط للطائرات الحربية السورية وهي تقصف القرى بمن فيها. ونستغرب أن الخارجية الروسية وتحديداً الدبلوماسي المخضرم لافروف لا يتساءل كيف يمكن لعاقل سوري مهما كان لونه السياسي أن يقبل بالتفاوض مع رئيس يدمر بلده بشكل منهجي.

ولكن كيف لنا أن نفسر هذا الموقف الروسي المتصلب الذي تسبب حتى في توتير علاقات موسكو مع عدد من دول المنطقة حرصت على بناء شراكات معها؟ هناك على الأقل ثلاثة أسباب لهذا الموقف هي: (1) قلق موسكو المبالغ فيه من أن المستفيد الأكبر من التحولات الراهنة يتمثل في الحركات الإسلامية كما شاهدنا في مصر وتونس وليبيا وأثر ذلك المحتمل على عودة الزخم للمقاومة ذات التوجهات الإسلامية في شمال القوقاز.

فروسيا تدرك أن احد العوامل التي ساهمت في نجاحها في احتواء المقاومة الشيشانية في نهاية التسعينيات كان موقف حكومات المنطقة التي رأت في الصراع في الشيشان شأنا روسياً داخلياً، هذا الموقف قد يتغير في حال تجدد الصراع، بل إن مجرد وصول الحركات الإسلامية للسلطة في منطقة قريبة من الحدود الروسية قد يكون ndash;حسب موسكو- دافعاً لتنشيط المقاومة إلى مستويات متقدمة.

(2) حرص موسكو على صورتها في المنطقة بوقوفها بجانب أصدقائها التقليدين- سوريا قد تكون الوحيدة اليوم- والتزامها بهذه العلاقات وعدم التخلي عنهم في مواجهة ما تصفه بالمؤامرة الإقليمية والدولية التي تبدأ بسوريا وتنتهي بإيران. (3) رفض موسكو للنزعة الأمريكية في توجيه السياسة الدولية وفقاً لمصالحها دون اعتبار لمصالح روسيا كدولة كبرى لها حقها في المساهمة في إعادة تشكيل موازين القوة في أقاليم مهمة كالشرق الأوسط.

وبغض النظر عن معقولية هذه الأسباب التي تجعل روسيا تتمسك بموقف يكاد يكون مرفوضاً من قبل بقية العالم، نجدها وبسبب الإصرار على هذا الموقف تتسبب في حدوث ما تخشى

منه سواء كان خلق بيئة جديدة لتنشيط الحركات المتطرفة من خلال تحويل الأراضي السورية المدمرة إلى بيئة خصبة لعودة القاعدة، أو خروج موسكو من لعبة تشكيل مستقبل المنطقة.

ولكن لا زال أمام روسيا فرصة أخيرة لتوجيه مسار الأزمة بما يحافظ على مصالحها في حال بادرت واتخذت موقفاً شجاعاً واقتنعت بأن سوريا والشعب السوري أهم من الأسد وأعوانه، كما اقتنع السعوديين قبلهم وفي مرحلة مبكرة من الثورة المصرية بأن مصر أهم من مبارك.

موسكو إذاً بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم للحل الدبلوماسي والقبول بأن أهم شروط نجاحه هو خروج الأسد من السلطة، وبدون ذلك فلن يجدي أي طرح دبلوماسي، وستسمر المواجهة حتى سقوط النظام ولكن بثمن باهض للسوريين والمنطقة وغير مضمون لموسكو. فهل يبادر الكرملين إلى إدراك هذه الحقيقة ويقتنع بأن المحافظة على ما تبقى لروسيا من مصالح في المنطقة أصبح مشروطاً بمغادر الأسد دمشق دون تـأخير؟