لماذا لم يظهر في مصر كاتباً أو مثقفاً محترماً في فترة ما بعد الثورة المصرية، يمكن له بقوة عباراته، وحسن بيانه،وسلامة قوله، من أن يعمل علي لم شمل المصريين المتفرق؟.هذا الطرح أو ذلك التمني،استحضرته اليوم في ذكري مرور عام علي وفاة quot;فاتسلاف هافلquot; الشاعر والكاتب المسرحي الكبير، الذي قاد دولة التشيك بعد نجاح الثورة المخملية في عام 1989 وحتي وافته المنية في 18 ديسمبر من عام 2011.

ساعد هافل كثيراً في نجاح الثورة علي الحكم الشمولي في بلاده، فقد كان شاعراً مرهف الحس،صادق الكلمة، يصل إلى قلوب الناس بوعي ما يكتب وعمق ما يري، و لم يكن في يوم ما مثل بعض كتابنا في مصرالمحروسة، بعيدا عن الواقعية منفصلاً عن الناس في كتاباته، فبعض كتابنا للأسف يهدفون للعمل في دهاليز السياسة من أجل الوصول الي منصب يبغون فيه المنفعة الخاصة والمصلحة الشخصية.
لم يدخل هافل في حروب طاحنة علي quot;الفضائياتquot; كما يحدث عندنا من أجل الشهرة،وفرض النفس،وإثبات الذات، لذلك سعت إليه الزعامة، ونادي به الشعب رئيسا بعد نجاح الثورة المخملية.

كتب هافل في عام 1963 مسرحية بعنوان quot;حفلة في الحديقةquot; قادته إلى السجن اربع سنوات، لأنه سخر من النظام الشمولي آنذاك، ولم يغيره السجن وظل علي عهده مدافعا عن حرية بلاده مؤمنا إلى أبعد إيمان الفرد بحق الإنسان في الحرية والتعبير، وبرغبته العارمة في تحرير بلاده من الإرث الشيوعي الثقيل. لم يتلون الرجل أو يدخل في صفقات تأتي به إلى الكرسي، فأحبه شعبه وأجلسه بالفعل علي الكرسي، وهكذا تكون الزعامة بعد الثورة، إبداع إنساني عميق،وفيض من المشاعر المحبة، يحيط بها الناس ذلك الإنسان المبدع فيأتي الي الحكم باسم الشعب،وهذا بالضبط ما افتقدته الثورة المصرية وما زالت !

للأسف لم تأت الثورة لمصرية برئيس مثل هافل، فالساحة المصرية قبل الثورة كانت خالية وظلت هكذا بعدها، فالناس لم تجد من تلتف حوله، بل إن كثير من الكتاب والإعلامين تحولوا بعد الثورة،فبعد أن كانوا ضدها اصبحوا معها،والذين طفحت بهم الساحة السياسية المصرية إلى واجهة الأحداث بعد الثورة راحوا يبحثون عن موضع للظهور وهم يعلنون انهم من مفجري الثورة، لكن بالرجوع إلى كتاباتهم نجد أنها تفضحهم، فقد كانوا علي الدوام يغازلون النظام السابق،ولم يهتم أي كاتب منهم كما اهتم فاتسلاف هافل بحرية الأفراد والفقراء في بلاده،بل أنهم تفوقوا علي هافيل بالجنوح إلى عالم آخر،عندما ادخلوا الإعلام في عالم البيزنس والمال، واصبحوا من أصحاب الملايين، رغم أن الكاتب الشريف قد يكتب من المهد إلى اللحد ولا يكاد أن يوفر مسكنا ملائما له ولأسرته.

في سيرة هافل نراه حاكما مثقفا حالما بمستقبل افضل لبلاده علي الدوام،استطاع بفكره وكلماته المؤثرة من لم الشعب حوله، لقد التزم بشكل غير مسبوق في مسيرة حياته بحرية الإنسان حتي انه كان يتم تشبيهه بغاندي، ولم يكن علي الإطلاق quot;فلquot; شيوعي كماquot; الفلولquot; عندنا، ما زالوا يسرحون ويتجولون علي شاشات الفضائيات لبث السموم دون أن يلجمهم أحد
.
لقد لعب فاتسلاف هافل دوراً رائدا في تحريربلاده وجاء كل ذلك بالثقافة والإبداع الذي حرك مشاعر الناس وأجج فيهم فكرة رفض النظام الحاكم، فقد نجحت مسرحياته ومقالاته في جمع الشعب التشيكي للالتفاف حوله ومعه أثناء الثورة السلمية التي نجحت في نهاية المطاف في نوفمبر من عام 1989 وتولي هافيل الحكم. أما عندنا فقد لعب الكتاب دورا عكسيا في تقسيم الشعب وبلبلة أفكاره.

لم يكن انتقاله من عالم الأدب الرفيع إلى عالم السياسة الشائك إلا من أجل تحقيق أمال شعبه،فقد رآه البعض عملاً أخلاقياً رفيعا، ساهم في وضع بلده علي الطريق الصحيح وعندما أدي رسالته واستنفذ مدته رجع مرة أخري إلى عالم الآدب وانغمس فيه حتي وافته المنية في 18 ديسمبر من العام الماضي 2011، ولم يستأثر بالكرسي ويتحول إلى غاصب وحاكم مستبد حتي الوفاة.

من أجمل تعبيراته التي يذكرها التاريخ له هو ذلك السؤال الشهير الذي وجهه إلي نفسه عندما قال: تري هل غيرتني سنوات الرئاسة التي طالت إلى 13 عام؟ ثم يجيب هو نفسه عن سؤاله معطيا درسا لكل الحكام حول العالم بقوله أنه علي عكس ما اعتقد من أن المنصب الكبير كان سيعطيه الكثير من الثقة في النفس إلا أنه اكتشف انه أصبح أقل ثقة في النفس وأكثر تواضعاً من ذي قبل، وهذا يجعلنا نقارن بينه وبين الحاكم عندنا الذي يصبح اكثر شراسة وغطرسة عندما تطول فترة حكمه،وكان هافيل يخاف مواجهة الشعب ويقول إنها لحظة تمثل له رهبة كبيرة لأنه يخاف من عدم تحقيق آمالهم وحل مشاكلهم.

هذا الأديب الرئيس كان زاهدا في الإعلام وحب الظهور الإعلامي وكان يقول بقدر الإمكان أحاول أن أبعد عنها مخافة أن اكرر نفسي فاصبح رتيبا مملا لا يهتم احد بما أقول،وكان يفكر بمنطق آخر تماما فكان يقول انه في كل مرة يتزايد أعدائي أجد نفسي في داخلي عدو لنفس اكثر منهم، ومن أجمل ما قاله أيضا وهو درس لكل حكام العالم quot;أصعب اللحظات ستكون هي لحظة الحقيقة عندما عندما أجد نفسي سواء كنت موجود في هذا العالم أو غير موجود محاطاً بأسئلة مثل ماذا فعل هذا الرجل؟ وماذا حقق؟وما هي النتائج؟وما هو الميراث السياسي الذي تركه؟وما هي طبيعة الدولة التي تركها خلفه؟ فهل يجئ اليوم الذي يسأل حكامنا فيه نفس هذه الأسئلة..اشك في ذلك!

[email protected]