يقول هانتغتون وهو من المقربين للمحافظين الجدد، ((تظل السلطة قوية ما دامت باقية في الظلام، فاذا ما تعرضت لنور الشمس تبخرت.)) وهو ما يسميه هانتغتون quot;مفارقة السلطةquot;.

يصف هذا القول حالة السلطة . ويتضمن تحذير للحاكم بان يحرص ان لا يكشف عن حقيقة سياسته وان فعل ذلك فانه سيعرض سلطته للاضمحلال. وقد عمم هانتغتون هذا القول كقاعدة في السياسة لكل زمان وسلطة ، دون ان يترك مجالا لبعض الاستثناءات.

وقد استخدم هانتغتون كلمة quot;مفارقةquot; ليصف حالة السلطة، وهو مصطلح غربي ملتبس متداول بمعاني مختلفة ، يعكس في السياسة معنى المراوغة. وتعني تظاهر السلطة بأن لها أهداف عليا نبيلة، في حين أن غريزة السلطة من حيث الجوهر هي quot;التملكquot; . وقد جعلها ماكيافللي قاعدة دائمة،((لا تعرف الدولة قانونا غير الاهتمام بحفظ نفسها. ))

ويمثل هذا الاتجاه المزدوج بين الهدف المثالي وممارسة العمل السياسي، السمة الفارقة للسلطة، التي لم تستطع السلطة التخلص منه منذ العصور القديمة ولحد الان.

فاذا كان الهدف المثالي غايته تحرير الانسان وبناء الاوطان وتحقيق المساواة والعدالة بين بني الانسان ، فان غاية السياسة هي خلق الظروف الملائمة لتعزيز السلطة وصيانتها . ويكون ذلك عن طريق اعلان حالة الطوارى واشاعة الخوف وصناعة الاعداء ، حتى تكفل السلطة سلامتها في الداخل والخارج .
تنطوي هذه المفارقة على مشكلتين متمايزتين: اولا مشكلة العلاقة بين العمل السياسي والاخلاق وثانيا مشكلة العلاقة بين الدولة والقانون. ويعطي ماكيافللي في كتابه الامير مثلا كلاسيكيا بفائدة اللااخلاقية في السياسية ، ولكنه وضع في ذلك شروطا على راسها ان يكون العمل اللااخلاقي من اجل مصلحة الدولة .

ويقدم الاستراتيجي الامريكي زبنجيو برجنسكي وهو احد صناع السياسة الامريكية المخضرمين ، في حوار مع المجلة الفرنسية لاننوفيل اوبسرفاتور ، مثالا على ممارسته العمل اللااخلاقي في السياسة لخدمة بلاده، وهو يستحق الذكر هنا:

تقدمت المجلة بسؤال الى بريجنسكي بان الروس كانوا على حق في تبرير دخولهم افغانستان، بهدف مواجهة العمليات السرية التي كانت تقوم بها وكالة الاستخبارات الامريكية ضدهم. وكان ذلك بناء على اعتراف المدير العام للوكالة انذاك quot;روبرت جيسquot; في مذكراته (من الظلال). وذكرت المجلة بان ذلك شيء يدعو الى الاسف.
((فاجاب بريجنسكي مستغربا ! للاسف على ماذا؟ ان العمليات السرية التي قمنا بها كانت فكرة رائعة . لقد ادت الى دخول السوفيت في فخ تمنينا أن يدخلوا مثله ، وقد دخلوا. فهل تريدون ان اقول لكم انني اسف على مخطط وضعناه ونفذناه بامتياز ؟!!! ثم سألته المجلة بانه خلق صورة الاسلام الارهابي من خلال السلاح والدعم الذي قدم سريا الى الارهابيين الذين اصبحوا اعداء للولايات المتحدة. فاجابه بريجنسكي وايهما افضل انهيار اتحاد السوفيتي او ممارسة الارهاب بواسطة الجماعات الاسلامية؟))

ومن الجدير بالذكر بان الروس quot;ورثة للاتحاد السوفيتي السابقquot; يفعلون الان الشيء نفسه مع الامريكان في منطقة الشرق الاوسط ، بدعمهم حكومة آيات الله في ايران ، لتقوم بدور الممانع للسياسة الامريكية ، وراس الحربة لشن العمليات السرية ضد الوجود الامريكي في العراق الذي اصبح quot;فخا للامريكانquot; على غرار الفخ الافغاني الذي نصبه بريجنسكي للسوفيت !!

نلاحظ في الحوار اعلاه، يقيس بريجنسكي الافعال بنتائجها وبالاهداف التي تسهم في تحقيقها. فابالنسبة اليه الغاية تبرر الوسيلة، وأن الوسيلة التي تحقق غاية مفيدة، هي وسيلة مشروعة، حتى لو كانت منافية للاخلاق. فتعاون الولايات المتحدة مع الجهاد الاسلامي وصناعة الارهاب الذي تعاني منه البشرية حاليا في جميع انحاء العالم، هو عمل لا يتفق مع المفاهيم الاخلاقية السائدة، الا انه بنظر بريجنسكي عمل رائع اذا كانت اثاره مفيدة وهو ازالة الخطر الشيوعي .

لذلك استهجن بريجنسكي غزو العراق لان عواقبه كانت سيئة لمصالح الولايات المتحدة القومية، لذلك توقع عدم كسب الحرب في العراق، لكونها وقعت خارج اطار الامم المتحدة، مما جعلها حسب تعبيره ((جهد استعماري يشن في حقبة ما بعد الاستعمار.))

تكشف اراء بريجنسكي السياسة اعلاه، اشكالية العلاقة بين السياسة والاخلاق بشكل جلي. وهذا المشلكة تقودنا الى المشكلة الثانية، وهي العلاقة بين الدولة والقانون. فاذا كان مسوغا للحاكم ان ينتهك القانون في حالة الخطر الذي يهدد الدولة، كما فعل بوش بعد احداث 11 ايلول 2001، فكيف نعرف بانه سيخضع للقانون في الحالات الطبيعية عندما يزول الخطر ؟
فحالة الطوارىء التي فرضها بوش منذ العام 2001، ما زالت قائمة ويجري التذرع بها لحد الان، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل اصبحت حالة معممة عبر العالم، مما يعني بانها تعبر عن ديمومة الممارسات الاستبدادية، وبأن الحاكم سوف يضع نفسه فوق القانون متذرعا بحالة الخطر الذي يهدد الدولة للقضاء على خصومه السياسيين وتعزيز سلطته فحسب؟
تقود هذه المفارقة التي تتضمنها السلطة، ويندر عدم استخدامها من قبل اصحاب السلطة، الى القطع مع الدول الفاضلة المثالية والحاكم الامام او الفيلسوف، الذي يزعم الاهتمام بالخير العام، ومصالح الشعب وتحقيق الحكم الصالح ، عندما يكشف الواقع بان الحكم الصالح المزعوم، ينفذ عبر القتل والسرقة والخيانة، مما يجعل دعوة الحكم الصالح غير ممكنة التنفيذ، بعد اكوام الرذائل التي يرتكبها الحكام ، الذين يظهرون بانهم لا يبالون الا بتعزيز سلطتهم وحفظها من الزوال.

ودليلنا في ذلك العراق الذي يعيش حالة تمزق وانهيار منذ خضوعه للاحتلال الذي دمر دولته، ومزق جيشه ومؤسساته الامنية الوطنية، وقتل علمائه، وانتهك اعراض نسائه ورجاله، وهدم دور العبادة ، وداس جنوده بارجهلهم على كتبه ومقدساته، وسرق تراثه، وشتت نسيجه الاجتماعي، ووكل عليه حكاما من صنعه، ومثل هذه الرذائل تدمر السلطة، حسب تقييم برجنسكي الذي يقول: ((ان النظام العراقي الحالي الذي تعتبره ادارة بوش ممثلا للعراقيين هو محدد بمساحة اربعة اميال مربعة داخل القلعة الامريكية في بغداد، ومحمى بجدار ارتفاعه 15 قدما في اماكن وجود اعداد كبيرة من القوات الامريكية، ويعرف باسم المنطقة الخضراء . ان القادة الحقيقيين هم أولئك الذين يمتلكون سلطة حقيقية خارج المنطقة الخضراء، وهؤلاء هم الذين سيكون لهم موقع قيادي حقيقي في نهاية المطاف. ))

يتحدث بريجنسكي في هذا النص على ما هو حقائق على الارض ، ويكشف عن الفرضية التاسيسية للسلطة ومما يحمله الاحتلال الاجنبي من مخاطر على السلطة. فمن يملك السلطة القوية والقيادة كما يرى quot;برجنسكيquot; ليس القادة الضعفاء الذي تحميهم القوت الامريكية في المنطقة الخضراء ، بل الذي يكون لهم موقع قيادي خارج هذه المنطقة ، وهم بالطبع القوى التي تمثل المقاومة الوطنية العراقية، فهي التي تحدد مستقبل العراق .
ولهذا طالب بريجنسكي بتغير اتجاه السياسة الامريكية، باتباع سياسة الدبلوماسية والتحالف بدلا من الحروب . وتجسدت هذه السياسة بعقد اتفاقية مع حكومة المالكي ، اطلق عليها تمويها quot;اتفاقية سحب القواتquot; للايحاء كما يُرَوج الان، بان حكومة المالكي الراهنة، الخاضعة للاحتلال حسب وصف برجنسكي، هي حكومة وطنية اعادت سيادة العراق واستقلاله !!