المبادرة التي كلف بها السيد كوفي عنان مند شباط الماضي جاءت كفرصة ذهبية لدبلوماسي عريق سابق كان من المعتادين على الأضواء والتهافت الإعلامي لكنه أصبح مرميا على الرف منذ عام 2006 بعد انتهاء مهامه كأمين عام للأمم المتحدة، أعلى منصب دبلوماسي دولي نجح في التوصل إليه نتيجة دهائه في التودد إلى أصحاب القرار.

عنان فشل في المهام التي كانت منيطة به كمسؤول عن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من خلال صمته وسلبيته اللتان كانتا السبب في عدم تدارك المجتمع الدولي والحيلولة دون حدوث القتل العام في رواندا عام 1994. حتى أن الكثيرين انتقدوا نيله لجائزة نوبل للسلام 2001 انتقاد شديدا. جرائم ملادج وكارادازج التي أودت بحياة أكثر من سبعة ألآلاف شخصا من أهالي سربرنيتسا 1995 في مجازر تعدّ الأبشع في التاريخ المعاصر ووصمة عار على جبين الإنسانية كان من الممكن تفاديها لولا عدم اكتراثه بأرواح الغير و تصرفه اللا مسؤول بعدم إخطار المجتمع الدولي عن حيثيات الأهوال الرهيبة في حينها وطلب الحماية للمدنيين من خلال التدخل العسكري.

كما هو معروف أيضا لو أن الأمور سارت كما اشتهاها عنان عام 2003 لبقي طاغية العراق صدام حسين جاثما على صدور العراقيين حتى يومنا هذا وشراكة نجليهما لأينعت و تصدرت الكثير من بورصات العالم.

مباركة الخطة التي اقترحها الموفد الدولي من القوى الغربية والجامعة العربية جاءت نتيجة الشلل الذي أصيب مسيرة المواقف الدولية بحكم الفيتو الروسي، الصيني والاعتقاد بأن تنفيذ بنود الاتفاق الستة قد يفضي إلى المزيد من الاحتجاجات وبالتالي التغيير الديمقراطي السلمي أو التوصل إلى وقف القتال والمظاهر المسلحة بحيث يصبح النظام في موقف مسيطر يمكنّه من ترتيب الأمور في البلاد بهدوء، عندئذ يمكن الضغط على وسائل الإعلام المناوئة للسلطة لتوقيف حملاتها الإعلامية فيستتب الأمن والاستقرار دون التورط في غزو مماثل للغزو العراقي والذي يفتقد الغرب وخاصة الولايات المتحدة بإدارة أوباما الشهية للمزيد منها.

عنان يعمل على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، سيان عنده في ذلك من سيحكم سورية، نجاحه سوف يعطيه الثقة بالنفس بأنه مازال بخير ولم يتحول إلى متقاعد عديم المنفعة لا يكترث لحاله أحد وربما يحظى مستقبلا بمهام جديدة في السودان، الجزائر أو غيرها من البؤر المرتقبة. وقف إطلاق النار بالنسبة له هو الهدف وليس التوصل إلى حل للأزمة نفسها وإنهاء المأساة التي أودت بحياة الآلاف من السوريين نتيجة همجية النظام في التعاطي مع الحراك. لا ضير عند الوسيط الأممي حتى لو كان ذلك التوقف مؤديا لإخماد للثورة.

القنوات والطرق الملتوية التي سلكها عنان منذ أكثر من ثلاثة أشهر تدعم هذه النظرية أي أنّه والأسد يريدون التوصل إلى النتيجة ذاتها. الأمر ليس تجنيا فالنهج السياسي والسلوك الدبلوماسي المنحرف البعيد كل البعد عن الأخلاق والقيم التي تظهر جليا يوما بعد يوم من الموفد الدولي الذي يتعامل مع الأزمة في بلدنا المنكوب وشعبنا المتألم وكأنه يتعاطى مع محنة تخصّ مخلوقات من كواكب أخرى. لا يبارح أروقة الفنادق الفخمة الا للقاء الرئيس الأسد أو أعوانه. حصوله على مباركة حليفي سورية القويتين روسيا والصين لم تأتي من فراغ بل جاءت بعد أن أصدروا املاءاتهم عليه وتأكدوا من أن المبادرة سوف ترسخ بقاء الأسد في السلطة ووأد الفتنة من وجهة نظرهما.

الخطة كانت وما تزال ضحكا على الذقون ذلك لافتقارها لورقة عمل داعمة في حال عدم امتثال النظام لتنفيذ بنودها الستة ولأن الخطة تحت وصاية الدولتين المذكورتين، النفاق والرياء السياسي والأخلاقي في الأزمة السورية فاق كل التقديرات.

تحولت سوريا بأرضها وشعبها إلى حقل تجارب من خلال سيناريوهات متكررة من بعثة مراقبي الدابي إلى عنان-مود و الاستمرار في النهج نفسه في الوقت الذي يرتفع أعداد الضحايا من المواطنين السوريين الأبرياء يوما بعد يوم.

الروس والصين يؤدون أدوارهم تماشيا مع مصالح أنظمتهم الإستراتيجية وعنان ينفذ. الملامة كلها تقع على المعارضة ومجموعة أصدقاء سورية. المعارضة معنية كطرف أساسي بأن تقبل أو ترفض الوساطة وليس كل شيء توافق عليه الدول الداعمة هي في صالح الشعب السوري. المبادرة التي تفتقد الأسس والأطر التي تؤهلها للنجاح ستخفق لا محالة.
حتى لو انطلت الحيلة على الدول الداعمة لانتفاضة الشعب السوري كان من المفروض أن لا تنطلي على المعارضة التي تعرف سبل النظام وألاعيبه، خصيصا مع وساطة موفد دولي له باع طويل في التعاطي السلبي مع قضايا مصيرية و إرضاء الأقوياء وأصحاب القرار.

على الرغم من الارتفاع الملحوظ في أعداد الضحايا السوريين منذ تولي الرجل زمام مبادرته وإعلان فشله مؤخرا الا أنه لم يعلن تخليه عن المهمة لكي يفسح المجال أمام المعارضة وأصدقاءها للبحث عن آليات عمل أخرى للحل. عنان يزور دمشق وابتسامة صفراء تغطي سحنته البليدة، فرحا بخيبته يلوح بأيديه محييا مستقبليه من جموع الشبيحة الذين كانوا في انتظاره. التخلي عن المهمة يعني بالنسبة له العودة من الأضواء العالمية إلى الظلمات كمتقاعد منسي.

الآن بعد أن عمل وفق إرادة روسيا والصين و لم ينجح في إخماد الثورة يريد استخدام الورقة الأخيرة وهي إيران لكي يمكّن النظام من السيطرة على الأمور.
عنان لم يبحث عن الحل ولا يسعى إليه! لو أراد ذلك و كان صادقا في مبتغاه لطالب بقوة أممية مسلحة قوامها لا تقل عن خمسة ألآلاف رجل، مدعوما هو نفسه كمنسق للسلام بخطة احتياطية من الأمم المتحدة بالتدخل العسكري عند الإخلال بتنفيذ البنود الستة. عندها كانت الأمور ستأخذ منحى مختلفا تماما. بالتأكيد ليس هو صاحب القرار في الحصول على ذلك لكنه صاحب قرار نفسه برفض الاستمرار بمبادرة عقيمة تزيد من الآلام شعبنا السوري وعذاباته.

عنان صرّح مؤخرا عن طرحه اقتراحا جديدا على الأسد و موافقة الأخير عليه، و بأنه سوف يناقش ذلك مع المعارضة المسلحة. هذا العمل تأكيد جديد على محاولته اليائسة لتمييع الثورة ربما هذه المرة بـمحاولة التقارب بين قوات الأسد مع المعارضة المسلحة ضد المعارضة السلمية لا غرابة في أن يفعلها عنان لكن من يقاتل لأجل الحرية لن يقبل بأقل منها.سينكشف القناع الزائف عن عنان وسينتهي أمره، لكن الانتفاضة الشعبية الحرة لن تنتهي الا بانتهاء النظام الاستبدادي بكل رموزه.

مترجم وكاتب سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]