اعتلى السيّد quot;المنصف المرزوقيquot; عرش quot;قرطاجquot; دون أن ينال حزبquot;المؤتمر من أجل الجمهوريّةquot; الذي يرأسه الأغلبية. وارتأت التفاهمات بين الأحزاب الثلاثة المتحالفة أن يكون رئيسا على التونسيين رغم أنّ عدد الأصوات التي حصل عليها في الدائرة التي ترشّح فيها للمجلس التأسيسيّ، أقلّ من كثير من نواب المجلس. ومن الغريب أنّ بعضا من المرشّحين في مناطق أخرى حصلوا على أصوات أكثر من التي حصل عليها رئيس الجمهورية لكنهم لم يتمكنوا من دخول المجلس !!.
إذن، دخل السيّد الرئيس قصر quot;قرطاجquot;، وفي نيته أن يغيّر ما ارتبط بمؤسسة الرئاسة من بهرج، وزخرف. واختار أن يكون متميّزا ومختلفا عمّن سبقه في الهندام والسلوك. لكن من البداية اتضح أن الرئيس الجديد الباحث عن توازن خطواته الأولى في الحكم المقيّد، قد فقد السيطرة على حزبه. وبدا في أكثر من مناسبة غير قادر على فرض الانضباط داخل الحزب الذي أسسه. وأوّل صفعة تلقاها كانت عندما قدّم اقتراحا في المجلس التأسيسي لكن عند التصويت اكتشف أنّ أغلب نواب حزبه كانوا ضدّه. ومات مشروعه في المهد !!. وهو الآن يقف متفرّجا على حمى الاستقالات والانشقاقات التي أدت إلى تفتّت الحزب، وانقسامه حتى أنّه يمكن القول إن الرئيس اليوم بلا حزب يسنده!.
وهذا الوضع غير مريح لأنه ينذر بنهاية عمر quot;المرزوقيquot; السياسيّ. فهل سيعلن الرئيس انسحابه من المشهد السياسي بعد أن ناضل طويلا ووصل إلى قصر قرطاج؟؟وهل المرزوقي ضحيّة حزبه الذي تخلّى عنه وهو في أشد الحاجة إليه؟ هل انتهى صراع الأجنحة داخل الحزب بانفراط عقد المجموعة التي عملت طويلا مع الرئيس، وكانت سندا له، وسببا في وصوله إلى قصر قرطاج؟هل اختار المرزوقي أن يعوّل على مستشاريه الفاقدين للخبرة وأن يسير معهم إلى الآخر حتى وإن أدى الأمر إلى فكّ الارتباط مع quot;رفاق الكفاحquot;؟؟
في الحقيقة، إنّ حزب quot;المؤتمر من أجل الجمهوريةquot; حمل بداخله عوامل الانشقاق عبر جمعه لشخصيات من مشارب أيديولوجية متناقضة جمعها النضال ضد حكم quot;بن علي quot; الجائر. وإذا أمكن القول إنّ quot;بن عليquot; أسّس بظلمه حزب المؤتمر، فهل كان بفراره سببا في عودة مياه منخرطيه إلى مجاريها الأيديولوجية الأساسيّة التي نامت زمن مقاومة الديكتاتوريّة؟
لقد نجح quot;المرزوقيquot; سابقا في أن يكون الرئيس الماسك بزمام حزبه والقادر على الجمع بين المتناقضات وإكراه المختلفين على العمل سويّة لتحقيق الهدف الأسمى. لكنّه يبدو اليوم غير قادر على جمع الفرقاء داخل حزبه، فاقدا لكاريزما الزعيم التي تتميّز بالقدرة على تجفيف التناقضات، وتخفيف الصراعات وتحويلها إلى آليّة من آليات تطوير الأداء الحزبي والنضال من أجل بلوغ الأهدف. فهل يعقل أن يرفض مَنْ كان أمينا عاما للحزب دعوة الرئيس للقائه !!. يبدو أنّ المرزوقي الآن قد بدأ رحلة quot;عبور الصحراءquot; وحيدا دون حزب يسنده. وهو ما قد يعجّل بخروجه من quot;قرطاجquot;، و ربّما من الساحة السياسية عموما.
وعادت بعض الألسن لتلوك فكرة أنّ quot;المرزوقيquot; ما كان ليكون رئيسا للبلاد دون دعم حزب quot;حركة النهضةquot;. ولذلك أهداه رئاسة بلا صلاحيات !. فهل كان المرزوقي ضحيّة حسابات quot;النهضةquot;؟ وهل بدأت الحركة تستعدّ للتحالف مع بديل له؟وهل كانت قضية quot;المحموديquot; القطرة التي أفاضت الكأس وأشّرت لطلاق الضرر بين الحليفيْن؟؟ وهل يمكن القول إن رئيس الجمهوريّة بات بلا حزب؟؟
وإذا كانت مؤسّسة الرئاسة تشهد اضطرابا، فإنّ مؤسسات الدولة الأخرى مازالت تحافظ على بعض تماسكها رغم ما تعيشه من مشاكل يوميّة. وقد أجمع أغلب المتابعين للحراك السياسي والاجتماعي في تونس ما بعد14جانفي على أنّ الإدارة التونسيّة كانت عاملا رئيسيّا في إنجاح الثورة رغم ما شهدته من بعض عمليات التدمير الممنهج في آخر فترات حكم quot;بن عليquot;. ويستند هؤلاء إلى مواصلة مؤسسات الدولة القيام بدورها، وتقديم خدماتها للمواطن رغم الاضطرابات الأمنيّة والفوضى التي أعقبت سقوط نظام quot;بن عليquot;. وقد أثبتت هذه الحقيقة أنّ مؤسسات الدولة في أغلبها سليمة، وأنّ ما عرفته من مشاكل مردّه إلى خيارات سياسية خاطئة أدّت أحيانا إلى تأزّم العلاقة بين المواطن والدولة.
وليس أخطر على البلاد التونسية من الهجومات المتكرّرة التي تستهدف الإدارة، ومؤسسات الدولة بغاية إفراغها من هيبتها وسلطتها التي اكتسبتها بالقانون المنظم لحياة الأفراد داخل الدولة. ويتخوّف المواطن من أن تتحوّل الإدارة إلى مرتع للتلاعب الحزبي والسياسيّ الذي يغلّب الولاء على الكفاءة. والمطلوب الآن أن تصبح الإدارة خاضعة لسلطة القانون بعيدا عن التسييس الذي أضرّ بها طيلة حكم الجنرالquot;بن عليquot;. وإنّ سعي بعض المجموعات إلى إفراغ المؤسسات من سلطتها، والاستهانة بمقراتها، والاستخفاف بقراراتها، من شأنه أن يهدّد البلاد في أمنها، ووجودها. ويبدو أن البعض يستمرئ الفراغ المؤسساتي، ويعمل على القضاء على مقوّمات الدولة كي تدخل البلاد في فوضى يكون فيها المستفيد الأوحد.
ويجب أن تجتمع التيارات السياسية والأحزاب على إدانة استهداف المقرات الأمنية والمحاكم والمؤسسات التربويّة، واعتبار المتورطين فيه أعداء للمجموعة الوطنيّة لا بدّ أن ينالوا جزاءهم مهما كانت الجهة التي تختفي وراءهم، وتشجعهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على ارتكاب هذه الجرائم. فهل يريد مستهدفو مؤسسات الدولة ومعرقلوها أن يحولوا البلاد إلى شعب ثائر بلا دولة؟؟هل يستقيم حال البلاد في ظلّ دولة غير مهابة يستضعفها الجميع؟؟
وإذا كانت المجموعة الوطنية يمكن أن تتجاوز بيسر وضعيّة quot;رئيس بلا حزبquot;فإنّها لايمكن أن ترضى بغياب مؤسسات الدولة وفقدانها لأبسط مقومات بقائها.
[email protected]
التعليقات