ألسنة النيران الملتهبة التي أضرمها البوعزيزي في جسده شكلت بداية الاحتراق لعقود من الكبت الشديد والاحتقان المتراكم الذي كان يعانيه مواطني العالم العربي، نتيجة الصمت على الانتهاكات الجسيمة في مجال حقوق المواطن، غياب العدالة الاجتماعية،انتشار الفساد،المحسوبية واستفراد الحكام بالقرارعنوة. كما أنها شكلت مرحلة زوال الطبقة الصغيرة صاحبة الامتيازات اللامحدودة ومعها الطبقة الطفيلية المدلّسة لها، فيما ظهر سواد الشعب بطموحاته، آماله، آلامه وأحلامه. انتقال الثورة إلى بقية الدول العربية جاء كمدّ طبيعي لوحدة الحال الكبيرة. وقوف الثورة في سورية (الأسد) مؤقت مهما عمل النظام من المحاولات اليائسة من أجل الصمود في وجه التغيير. رايات الانتصار الشعبي العارم على الاستبداد سترفع و الثورة ستمضي في مسيرتها ما دامت هناك أنظمة مشابهة لتلك التي انهارت. الشباب المتعطش للحرية والتغيير أسوة بأقرانهم في الدول المتقدمة والذي كان للتطور التقني دورا كبيرا على الإسراع في عملية التواصل والانفتاح على العالم لن تهدأ قبل أن تتحررمن قيود الحكام المستبدين.

الذي حصل في دول الربيع العربي أن التنظيمات السياسية الإسلامية كانت أكثر تهيؤا لاحتواء العديد من هؤلاء الشباب الثائر والاستحواذ على قيادة الحراك، مستفيدين من خلفيتهم السياسية كمعارضين تقليدين غير مجربين سابقا في أروقة الحكم، لذلك حظوا بالفرصة من قبل الشارع المنتفض في تحقيق نجاحات انتخابية والتوصل إلى قيادة البلاد. لكن الشيء الأهم أن هذه الأحزاب هي تحت الاختبار من قبل الشارع الهائج المنتظر للكثير من الانجازات السريعة خاصة في المجال الاقتصادي وانعكاسها المباشر على ظروف الحياة اليومية.

الكثير من التحديات تواجه القادة الجدد أهمها الارتقاء بأنظمتهم الجديدة إلى مستوى الطموح التي لأجلها قامت الثورات.
يجب أن لا ننسى بأن ثورات الربيع العربي فطرية، تلقائية، غير مؤدلجة، انتفاضات من أجل الحرية أولا و العيش الكريم ثانيا، إذا تحقق إحدى الهدفين دون الآخر فسيكون خيار اللجوء إلى الشارع دائما مطروحا. التوتر السياسي وعدم الاستقرار في العالم العربي سيكون له تداعيات سلبية كبيرة،من جميع النواحي، الاقتصادية، البشرية، السياسية، ليس فقط على المنطقة بل على العالم.

في مقال بعنوان ( العالم العربي بحاجة إلى الدعم) الذي نشر في صحيفة داغنز نيهيتر السويدية بتاريخ 2012-07-16 لسينان أولجن باحث زائر في معهد كارنيغي أوروبا ورئيس مركز أبحاث في استانبول يتحدث عن أهمية الدعم الدولي للقادة الجدد فيما يلي ملخصا عنه:
يجب على المجتمع الدولي دعم قادة الربيع العربي الجدد بالمال والخبرات وإلا فهناك خطورة من نشوب اضطرابات سياسية جديدة في تلك الدول. التسويات في مصر بين القادة العسكريين والإسلاميين يشكل تذكيرا بمقدار الصعوبة التي ستواجهها مسيرة التحول إلى الديمقراطية. إن لم يتم التوصل إلى آلية عمل مشتركة لتوزيع السلطات فيما بينهما سوف يؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى إطالة وضعية عدم الاستقرار السياسي. لكن الشلل في الحالة الاقتصادية المرافقة لا تقل خطورتها عن ذلك في التأثير على ترسيخ الديمقراطية. هؤلاء القادة الذين تحولوا من إسلاميين إلى حكام عوضا عن النظام السابق، يعرفون بكل تأكيد بأن الأفاق الاقتصادية في بلدانهم يجب أن تتحسن، و أن بإمكانهم الاحتفاظ على شعبيتهم فقط إذا تمكنوا من الإسهام في زيادة التنمية، خلق المزيد من فرص العمل ورفع مستوى المعيشة. هذه من المضامير التي يصعب التوصل إلى نتائج مرضية فيها عادة ولكنها أضحت أكثر صعوبة منذ حلول الربيع العربي الذي أدى إلى ارتباك النظام الاقتصادي في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

حتى في تونس ومصر حيث التحول الديمقراطي قد قطع شوطا أطول، أثرت حالة عدم الاستقرار السياسي على الأداء الاقتصادي. لأول مرة منذ عام 1986 انكمش الاقتصاد التونسي 2011 بنسبة 1،8 و البطالة وصلت إلى 18%
بارتفاع 13% مقارنة مع عام 2010. الاقتصاد المصري نقص بنسبة 0،8% وفقد مليون مواطن مصري عمله. كما أن الاستثمارات الأجنبية انخفضت من 6،4 مليار دولار عام 2010 إلى 500 مليون دولار فقط عام 2011. العجز في الميزانية المصرية وصلت إلى 10% من إجمالي الناتج القومي وانخفاض الاحتياطي النقدي إلى 15 مليار دولار ما يكفي تماما لدفع استيراد ثلاثة أشهر. حتى في تونس ارتفع العجز في الميزانية بشدة بعد الثورة من 2،6% من إجمالي الناتج القومي 2010 إلى 6% عام 2011.
هذا التدهور السريع في مواجهة التأملات الكبيرة المرتقبة التي أيقظتها التحولات السياسية يفرض على الأحزاب السياسية طرح برنامجا اقتصاديا أكثر تفصيليا لكي يتماشى مع شكاوى الناخبين التي تتزايد باستمرار حول الأوضاع المادية. الإسلاميون تناولوا المواضيع السياسية قبل كل شيء وشددوا على الإصلاحات الديمقراطية، لكن في الحملات الانتخابية الأخيرة مال المرشحون أكثر فأكثر إلى التعبير عن التطلعات الاقتصادية.

جميع اللاعبين وخاصة الأحزاب الإسلامية اتخذت إجراءات تصالحيه لابأس بها فيما يخص العلاقات الدولية. البرامج الاقتصادية لهذه الأحزاب متناسبة إلى حد ما مع سياسة السوق وتشدد على أهمية دور القطاع الخاص كمحرك للنمو، كذلك الحاجة إلى رأس المال الأجنبي. الدولة يجب أن تضمن العدالة الاجتماعية ونادرا ما يسمع منهم الحديث عن مبادئ الشريعة. في كل من تونس ومصر أكدت الأحزاب السياسية بأن قطاع السياحة الهام لن يتم مضايقتها بمحظورات مستمدة من القوانين الإسلامية. برامجهم الاقتصادية تفسح المجال للحصول على المساعدات من المؤسسات الدولية.

المقاومة ضد التدخلات الأجنبية ومساعداتها فيما يتعلق بالإصلاحات الديمقراطية كانت قوية، ولكن يبدو الآن أن قادة العرب الجدد أكثر رغبة في التعاون مع الغرب حول الأهداف الاقتصادية.
الضعف الاقتصادي يعطي الفرصة لدول جديدة كي تتعاون مع هذه القيادات الجديدة. على المدى القريب والبعيد.
يجب إعطاء الأولوية للأهداف القريبة فهناك ضغط شديد على الأحزاب الإسلامية بأن تحقق نتائج ايجابية خلال ولايتها الانتخابية الأولى. الحكومات الجديدة تقع تحت وطأة الضغط المباشر لخلق المزيد من فرص العمل والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي في إمكانية الاستثمارات على نطاق واسع في المشاريع العامة. المجتمع الدولي بإمكانه المبادرة بوسائل عديدة لمساعدة هذه الحكومات في المثابرة والبقاء في الحكم، يستطيعون أن يرفعوا من سقف المساعدات المالية الموعودة، بالإضافة إلى الدعم بالخبراء الماليين في الاقتصاد العام.
المجتمع الدولي يستطيع أيضا مساعدة الحكومات العربية على تأسيس إطار قانوني ونظام رقابي لمشاريع البنية التحتية الكبرى المشتركة العامة والخاصة. اللاعبين الدوليين يستطيعون بعدئذ مساعدة الحكومات بتسويق الإجراءات لكي ينعم الاقتصاد العربي بالانتعاش من التمويل الخارجي البعيد المدى فيما يتعلق بالبنية التحتية.

مزيج من هذه الإمكانيات فقط هي التي ستسمح للاقتصاد العربي بخلق العديد من فرص العمل الجديدة في فترة زمنية قصيرة، في الوقت نفسه تتجنب خطر زعزعة الاقتصاد وعدم التوازن أو غياب التمويل للاستثمارات الخاصة. الغرب من جهته سيكسب الكثير من خلال التعاون الموثوق مع العالم العربي لكي تتمتع مجتمعاتها باقتصاد جيد في المستقبل.

مترجم وكاتب سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]