قيم الحرية والديموقراطية التي راجت في القرن الثامن عشر، لم تهبط على أوروبا من السماء، ولا تفجرت بها براكين الأرض فجأة. لكنها كانت النتاج الطبيعي لتغيرات مجتمعية اقتصادية ومن ثم ثقافية. الآن في مصر، وفي ظل هذا المناخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المتخلف والمشوه، فإن المطالبين بالحرية والديموقراطية، إما ناقلين عن العالم الخارجي، بمعزل عن واقع البيئة التي يعيشون فيها، وإما يطالبون بالحرية والديموقراطية فقط لكي تصل بهم هم، ولا أحداً بعد غيرهم، إلى كراسي السلطة، ليعيدوا ذات سيرة من أطاحوا بهم، وربما أسوأ. . هكذا لابد أن ننحي جانباً لبعض الوقت، أي حديث أو أمل في حرية وديموقراطية في بلادي، ونرتبط بحدود مقتضيات الواقع المصري، الذي لا يحتاج الآن فيما أظن لغير قبضة حديدية، تعيد النظام لبلاد، فشل شعبها طوال ثلاث سنوات، في أن يخطو خطوة حضارية واحدة للأمام، بل انزلق إلى الخلف عدة خطوات.
كنت شخصياً مع الثورة على مبارك من قبل ثورة 25 يناير بسنوات، وقبلها بعام جمعت مجموعة مقالات لي عن التغيير، ونشرتها كتاباً بعنوان quot;البرادعي وحلم الثورة الخضراءquot;، وحين قامت الثورة التحقت بتظاهراتها، في صمت كمواطن مصري بسيط. وحين استمر البرادعي في ارتكاب ذات الاستراتيجية الخاطئة حد الجريمة، التي سبق وحذرت الجميع منها في مقالاتي وكتابي سابق الذكر، استمريت فيما انطبق عليه قول الشاعر quot;لقد أسمعت لو ناديت حياً. ولكن لا حياة لمن تناديquot;. وكان ما كان من فشل هدد بضياع البلاد. أو بالأصح أضاع البلاد، وقام البسطاء من جماهير الشعب المصري باستعادتها، ومعهم فشلة الثوار الذي ساهموا بنصيب كبير في ضياعها. . الآن وفي حدود معطيات الساحة السياسية المصرية، لا نرى معطيات جديدة، يمكن إذا استمرت الثورة أن تأتي لنا بجديد. بل بالعكس، فالقوى الدينية التي حولت مسار الثورة الأول، تتربص الآن وتستعد للانقضاض من جديد، والشباب الثائر مازال كما هو، مجرد ظاهرة صوتية، دون وزن جماهيري حقيقي، سواء على مستوى تسيير مظاهرة، أو مستوى انتخابات رئاسية أو نيابية. والأخطر أن هذا الشباب الثائر، إما خاو الوفاض من أي رؤى مستقبلية، وإما يحمل رؤى عتيقة بالية، من زمن الستينات الناصري العروبي اليساري. الآن أيضاً تكاد تكون مصر قد أفلست بالفعل اقتصادياً، ونعيش مؤقتاً على معونات دول الخليج، المحسنين بحسن أو بسوء نية. لذا فليس أمام المخلص لهذا الوطن، والمخلص لقيم الحرية والحداثة، إلا أن يجنح لهدنة، نرمم فيها ما تهدم من دولتنا وحياتنا. لعل مسيرة الحضارة المعاصرة التي تدفعنا أمامها تلقائياً، تغير من معادلة القوى بالساحة، فتظهر قوى مدنية حديثة وديموقراطية بحق، تتراجع أمامها سلفيات ستينات القرن العشرين والقرن السابع الميلادي.
رغم أن 25 يناير 2011 هو تاريخ صحوة الشعب المصري من سباته الطويل، إلا أنني نادم على سذاجتي الوقتية الحماسية، حين علقت عليها آمالاً في تغيير حقيقي جدير بالاعتبار. ورغم عظمة إنجاز ثورة 30 يونيو 2013، إلا أنني كنت قد تعملت درس ما تجلبه الحماسة من أوهام، ولم أقدر لها أكثر من إنقاذ مصر من الضياع في مستنقع الدولة الدينية، دونما أمل في أي خطوة أخرى نحو مستقبل أفضل. . الحالة السياسية المحتقنة في مصر الآن، لا تسمح لنا بكتابة دستور حداثي أو حتى سن قوانين، وإلا ستصدر مسكونة بالهواجس الموجودة لدينا جميعاً الآن. وخير مثال لهذا قانون التظاهر، فرغم أننا نحتاجه شكلاً ومضموناً الآن بشدة، إلا أنه لا يصلح قانوناً لدولة تحترم بحق حق الإنسان في التظاهر، وتنظم كيفية ممارسة هذا الحق. هو قانون مسكون بهواجس الممارسات الإجرامية لعصابة الإخوان المسلمين، فجاء مفترضاً أن كل متظاهر لابد وأن ينحو نحوهم. والحل النموذجي في ضوء معطيات الواقع الحالي أن نعتمد على القوانين الموجودة أصلاً، وبجانبها قانون الطوارئ إذا لزم الأمر، ونعود لدستور 71، حتى نعبر المحنة الراهنة بسلام.
من يتوجب استئصال أفكارهم تماماً من المجتمع المصري، هم دعاة التعصب والتخلف والكراهية في الله والإرهاب. أما الفوضويون والعدميون والناصريون والعروبجية واليساريون، فقليل منهم أشبه بالتوابل في المجتمع، يثيرون الجدل والحوار المجتمعي المستمر، لكن بالطبع وجود كثيرين من هذه في أي مجتمع كارثة محدقة أو حالة!!
ليس صحيحاً ما يتصوره البعض، أن قانون التظاهر الذي جاء بتوقيت ومضمون غير مناسبين، هو السبب في شق جبهة 30 يونيو. فالجبهة بمكوناتها المتنوعة، التي تجمعت وتكاتفت في ظرف ولغرض محدد، هو الخلاص من حكم الإخوان الكارثي، كانت بسبيلها بعد تحقيق الهدف إلى أن تتصدع، فتلك طبيعة الأمور، وبالأكثر عجل صدور قانون التظاهر، بإعطاء تعِلَّة لمن كانوا ينتظرونها، للخروج من الصف الوطني المناهض للفاشية الدينية.
تتكون الجبهة من عناصر متعددة، أولها نوعان من الشباب الثائر، شباب يتطلع لمستقبل حداثي مدني لمصر، يضع مصر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في صف دول العالم المتقدم. وشباب منساق خلف أصحاب الأفكار الراديكالية العلمانية التي راجت بمصر في ستينات القرن الماضي، التي كانت ومازالت مصحوبة بنزعة أيديولوجية راديكالية إسلامية، تستتر أغلب الوقت خلف مقولات وشعارات علمانية، وتظهر جلية في مواقف هؤلاء العملية، ما عاصرناه فيمن نطلق عليهم quot;جماعة فيرمونتquot; أو quot;عاصرو الليمونquot;، التي تحالفت مع الإخوان حتى وصلوا لكراسي الحكم. وتعتنق هذه الفئة أيدولوجيات الناصرية والعروبية واليسارية المصرية. هذه النوعية الأخيرة من الشباب، هي نقطة الضعف أو الصدع الأخطر في جبهة 30 يونيو. هؤلاء هم الذين ظهروا على السطح الآن، مبررين انشقاقهم الذي كان محتوماً، برفض قانون التظاهر، وما يسمونه quot;حكم العسكرquot;. لكن الحقيقة الأعمق هي تضاد مشروعهم ورؤاهم، مع رؤى ومشروع المكونات الأعظم لجبهة 30 يونيو.
بعد مكون الشباب بنوعيه في جبهة 30 يونيو، نأتي إلى المكون الثاني والأعظم حجماً، والذي يتكون أيضاً من فريقين. أولهما وأصغرهما حجماً بفارق شاسع، هو ما يحق بالفعل تسميته quot;الفلولquot;. وهم المستفيدين من الجزء الفاسد سياسياً واقتصادياً في عصر مبارك، ويضم هذا الفريق سياسيين ورجال أعمال ونقابيين وصحفيين وكبار رجال عائلات وكبار موظفين، وبالعموم متسلقين من كل جنس ولون. هذا الفريق يمكن تقدير حجمه بالآلاف، مقابل عشرات الملايين في فريق من يمكن تسميتهم بما شاع من مصطلح quot;حزب الكنبةquot;، والذي يضم فيمن يضم عموم الأقباط، بالطبع بخلاف من يندرج من الأقباط ضمن سائر ما سبق الإشارة إليه من فرق ومكونات. يمكن القول أن هذه الفئة، التي تشكل الجزء الأعظم من الشعب المصري، هي التي كانت ما بين مستفيدة من المكون الصالح في عصر مبارك، وبين أنها ليس لديها من التضرر من هذا العصر، إلى الحد الذي يدفعها للثورة عليه، والدخول إلى مغامرة، كانت معالمها الوبيلة أكثر وضوحاً أمام هذه الفئة، والتي أكد ما حدث بعد 25 يناير حتى 30 يونيو صدق توقعاتها ومخاوفها.
ما بين ومع الفئات السابقة، انخرط وينخرط حتى الآن في فعاليات ما نسميه ثورة، أعداد هائلة من المهمشين والمنسيين من نظام الحكم ومؤسساته، والعاطلون إلى الأبد، وأطفال الشوارع. وهؤلاء يلعبون في سائر التظاهرات التي تخرج عن السلمية دوراً بارزاً، بممارسة التخريب، سواء كان مأجوراً، أم يمارس مجانياً، تحقيقاً للانتقام للذات من المجتمع الظالم المتكبر، وتفريجاً للكبت السيكولوجي الناجم عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي يحيونها.
أتوقع في المرحلة القادمة دحر الإرهاب المسلح خلال عام أو أكثر قليلاً. وتكسير عظام تنظيم الإخوان المسلمين، وبدء الإخوان مرحلة استضعاف جديدة، يتركهم فيها النظام يعملون بنهجهم المفضل تحت السطح، لكن تحت مراقبة الأجهزة الأمنية، مقابل ترك السلفيين يستشرون في الشارع المصري، ويكون بعض رموزهم في المجلس النيابي. لكن شوكتهم الأقوى ستكون في الشارع، وبتمرير وفرض رؤاهم عبر الأزهر، المتوقع أن يتعاظم دوره. وأن تكون حرية الإعلام في التعبير أوسع قليلاً من عهد مبارك. بخصوص الاقتصاد، سنعود تدريجياً إلى المسار الرأسمالي الصحيح الذي اتخذه نظام مبارك، مع اتسامه بذات التردد والبطء الذي ساد ذلك العصر. وقد نشهد عودة جزئية للأقباط للاحتماء بالكنيسة، ولاعتبارها الملاذ الآمن في وسط ضبابي، مع تعاظم دور الكنيسة الخادم للسلطة كما في العهد الشنودوي.
سيكون السيسي هو الممسك بمقاليد الأمور، سواء كان رئيس جمهورية أو وزير دفاع. وربما لو نجح في حل بعض الاختناقات الاقتصادية المؤثرة على الطبقات الدنيا، سيبدأ في جني شعبية قريبة من شعبية عبد الناصر الآن، ما سيجعل الطريق ممهداً لشبه ديكتاتورية يساندها الشعب، وإن كانت ديكتاتورية وفق الأحوال المحلية والعالمية الراهنة، أي محدودة ومحكومة. . نحن إذن مقبلون في أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، على أكثر من عشر سنوات quot;محلك سرquot;، قد يتخللها كثير من التراجعات الحضارية، أيضاً قد تصاحبها خطوات قليلة قصيرة للأمام.
الحقيقة أن الوطن الذي أحلم به، وأعرف معالمه جيداً، يكاد لا يريده أحد، خلا حفنة من أمثالي، المعتنقين للنموذج الغربي للحياة والقيم والمفاهيم. ورغم إصراري على التبشير بما أحلم به، إلا أنني على مستوى الواقع السياسي، مقدر علي أن أحاصر في الاختيار بين السيء و الأسوأ، ولقد كان نظام مبارك أقل سوءً من نظام الإخوان، والآن ونحن مقدمون على نظام أقرب لنظام مبارك، أو هو نسخة جديدة منه، لابد وأن تراعي فروق التوقيت، وما طرأ على الشعب المصري بعد 25 يناير من تغيرات جوهرية، مع ذلك أجدني لا أستطيع الترحيب بهذا القادم الذي أنقذتني بشائره من هاوية الإخوان، فالدستور الجديد أو المعدل بمادته الثانية، وما ألحق بها في ديباجته، بجانب التواجد القوي للسلفيين، المصممين على تفعيل هذه المادة، يشير إلى أننا مقبلون على عهد أسود. رغم هذا لا نملك التخللي عن الأمل في غد أفضل، قد يأتي عبر تفاعلات البوتقة المصرية، التي تموج وتفور مكوناتها الآن.