منذ عقود عدة كان السؤال الذي يشغل بال المفكرين العرب هو كيف ننهض بانساننا العربي؟ هذا التساؤل كان يضيع في لجة الضمور الحضاري الذي تعانيه هذه الامة بحث اصبح هذا الانسان عرضة دائمة للاهتزاز، تتقاذفه رياح التغير بين مد وجزر من دون ان يستقر على بر آمن. وكأن هناك معادلة قائمة تقول : ان تكون عربيا فمن الصعوبة بمكان ان تكون معاصراً.

ومع ان العقلية التبريرية حاولت ايهامنا لسنوات وسنوات طويلة على طاولات التفسيرات التقليدية التي كبلت أي محاولة جادة للوصول الى مسببات تلك المسألة كخطوة اساسية لتجاوز اشكاليتها، فان هذه العقلية عجزت عن تقديم اطر الحل في مواجهة التهديدات والتحديات وبقي تمركز ثقلها حول فكرة محورية مكررة ومجترة القول مفادها ان الآخر هو المسؤول عن الحالة الكارثية التي وصلنا اليها الان.

وقد تبدو لاول وهلة، ان مبررات هذه العقلية مقبولة لدى الكثيرين لكنها نصف الحقيقة او اقل من ذلك بكثير، اما النصف الاخر فهي تتعلق بنا نحن حكاما ومواطنين، فالعلة الاساسية تبقى فينا وفي قابليتنا للاختراق، لان الآخر لا يستطيع وحده عرقلة مسارنا لو لم تكن بنيتنا الداخلية ضعيفة واهنة هشة وفقيرة نتيجة اسباب ومعطيات عدة، اذ ان غياب الوعي او نقصه كثيراً مايكون احدى جرائر قياداته، وحين لاتحسن القيادات تفتيح عيون مواطنيها على الحقائق في العالم الذي يعيشون فيه فانها تكون مسؤولة تماما عن حالة من الفصام الداخلي التي تؤدي الى فقدان الانسان مناعته الداخلية وتعرضه للتقهقر المستمر. فلسبب او لأخر، وغالبا ما يكون السبب استجرارا لمنفعة مادية أو تهربا من مأزق مؤقت، تخدع القيادات شعوبها وتوهمها وتعمي عليها الحقائق، وحينما تضمحل الاوهام وينكشف الزيف، تفقد ادعاءات القادة مصداقيتها وتمحي الثقة بينهم وبين المواطن، كما امحت ذات يوم بين الراعي الكذاب وأهل الحي.

وياليت اقتصر الامر على ذلك بل تعداه الى استلاب كافة الحقوق ومصادرة جميع مكنونات الشخصية الذاتية للانسان بحجة الامن او المصلحة العامة، وبالتالي فقد انزلقت القوانين الى خدمة السلطة بدلا من ان تكون السلطة في خدمة القانون، واستحال الحكم، من حكم قوانين الى حكم اشخاص، لايربطه بالديمقراطية، جوهرا او شكلا أي رابط، مما اوقع الانسان العربي في عصور من القهر المتمادي.

اما نحن كمواطنين فلنا مسؤليتنا، ليس لاننا استسلمنا للامر الواقع استسلاما واضحا، واستسهلنا خضوعنا وخنوعنا، بحيث فهم قادتنا ولفترات طويلة من الزمن بان لسان حالنا يقول لهم : (( لاتنسحبوا من حياتنا، لن نسمح لكم بذلك نريدكم ان تبقوا، زيدونا شقاءاً فنحن راضون بهذا الشقاء طالما يأتي على ايديكم )) فحسب، وانما اننا ذهبنا ايضا ضحية انفصام بين نزعتين الاولى تحن الى الماضي وترتبط به الى درجة الزواج الكاثوليكي تلجأ فيها الى تنزيه تاريخنا من أي شائبة وترفض بقوة أي محاولة للتقرب من هذا التاريخ او تفسيره تفسيرا مغايرا عما دأبنا عليه. الى درجة بات الانسان العربي يتهم انه يعيش في الماضي اكثر مما يعيش في الحاضر وان احلامه دائما ورائه وانه يعيش أي تجربة في ضوء ما قد كان.

اما النزعة الاخرى فهي تميل الى تبني نماذج جاهزة انحصرت الان بين الغربنة او التغريب وهو ما اوقع اصحابها في مأزق حقيقي لان هذه النزعة اغفلت المعطيات الخصوصية لمجتمعتنا واغرقت في التغريب على الرغم من انها كانت ردة فعل على حالة الجمود او التقوقع حول الذات.

وهكذا وقع انساننا العربي ضحية التقليد : تقليد التراث او تقليد الاخر في حين ان التقليد هو مميت في كل حال ومؤد للجمود في نتيجته النهائية.

وعلى الرغم من مضي اكثر من قرن ونصف القرن على تبني العرب ( للنهضة )) فانهم مازالوا يتحدثون عنها دون ان يخرجوا من هذا الطور، مما يطرح سؤالا جديا عن ازمة النهضة المستعصية التي لاتزال في طور المخاض تلك النهضة التي لم تتعد في احسن حالاتها اعادة انتاج الماضي تأويلا وتفسيرا وشرحا، ولم تسع الى ابداع الحلول الجديدة للمشكلات المركبة والمعقدة في عالمنا المعاصر.

وفي ظل هذا الواقع المحبط اضحى الانسان العربي يشعر بحالة من الضياع والتشتت الفكري، وازداد الامر خطورة حينما بدا هذا الانسان ينزلق في مربع اضلاعه الطائفة والعرق والقبيلة والجهوية، لاسيما ان بوادر هذا السقوط ترسخت مع فشل التيارات الحركية العلمانية والاسلامية من انقاذ هذا الانسان من محنته، وكل تيار ساهم الى حد ما في زيادة بؤس هذا الانسان العربي بطريقة او أخرى.

والسؤال الذي يطرح نفسه مالعمل؟ بيد ان الاجابة على هذا السؤال هو بصعوبة السؤال نفسه ان لم يكن اكبر، لكن أي محاولة جدية للعرب اذا كانوا يرومون فعلا للخروج من ازمتهم هذه، هي تفكيك بنيتهم وتحليلها والتفتيش بين ثناياها عن مكامن الضعف والهشاشة والقصور دون خوف ولا وجل، والابتعاد عن الارتجال او التعمية او السطحية، والا فانهم سيبقون متخبطين بما هم فيه، بل ستزدادا حالتهم سوءا على سوء وكأنهم يبحثون عن موارد الهلاك والفناء وعندها لا ريب من انتظار هزائم ادهى وأشد، وكوارث أفجع واشمل.

[email protected]