احرق بائع بسيط في مدينة تونسية جسده احتجاجا على منعه من بيع بضاعته في مكان عام والتي لم تكن سوى خضر محمولة على عربة يدفعها الكادح ليكسب قوت عيشه، بعدما لفظته كغيره الجامعة في الدول العربية ودول العالم النامي، ولا يملك ما يكفي من الحظ مع ما تحتمل هذه الكلمة من تأويلات مشروعة ليجد فرصته في سوق الشغل، انسان اخر اهين وداس حداء الامن كرامته باسم القانون والحفاظ على النظام العام وتقنين مهنة الباعة المتجولين،ما اكثر من تهان وتمتهن كرامتهم لنفس الاسباب وغيرها في العالم بأسره عموما وفي بلاد العرب خصوصا مند عقود، لكن بقدرة قادر هذا الشاب اصبح استثناءا،هبت كل القنوات الاعلامية والمنظمات الحقوقية والأحزاب والنقابات ومنظمات وهيئات ما سمي بالمجتمع المدني والطوائف من داخل البلد وخارجه لتدافع عن كرامته وتسترد حقه،لم يرضى الحلف الميمون بالتعويض ولا بتنازل فخامة الرئيس لزيارته الشاب في المستشفى، ولم تفلح وعود الحكومة من اقناع حلف الدفاع بالتراجع، انتهت المعركة بهروب او تهريب الرئيس وتولي الجيش زمام السلطة لفترة انتقاليه، عاد المطرودون والهاربون ليتسلموا مقعد الرئيس، سمي الحدث ثورة الياسمين بمباركة الخارج، ولا يمكن الحديث عن مباركة الداخل لان هذا الاخير مشغول بلملمة الفوضى التي خلفها الحدث، وكيل الاتهامات بين من رحل ومن اتى ليتسلم دفة القيادة في البلد، عندما ترسوا السفينة وتتضح ملامح المجهول الذي تسير اليه تونس يمكن ان نتحدث عن المباركة او ربما العزاء. تلكم ملامح ما اسماه الاعلام ثورة الياسمين باختصار، استفاض المحللون والنجباء الذين اعتقدوا انهم يفهمون واقع بلد ابن خلدون اكثر من غيرهم عبر اطلالاتهم علينا من مكاتبهم المكيفة ومن شوارع لندن وباريس وواشنطن وهم يتحدثون عن شوارع تونس وبسطاء سيدي بوزيد في شرح الاسباب،تحدثوا عن الدكتاتورية والفساد والقمع وسلطة الحزب الواحد وانعدام حرية الاعلام والصحافة في هذا البلد في عهد النظام السابق وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وو.... لائحة طويلة.

بشرونا بالمدينة الفاضلة عندما تندمل جراح الشعب ويعود الاستقرار للبلد ليعم الرخاء ويصبح الفقر والظلم والبطالة ظواهر غريبة عندما يستقر القادمون الجدد والمبشرون الجدد حاملي انجيل الديمقراطية وحقوق الانسانية ومنفذي تعاليم ووصايا من فوضهم الرب لنشر العدل في بلدان العرب.....
هكذا جاءنا الفرج وأخيرا حان دورنا لننعم بالديمقراطية بعد عقود من انظمة شمولية استبدادية توارثية ديكتاتورية،ان الاوان لتدخل شعوب البسطاء لائحة الشعوب الثائرة،بعدما كنا مجرد شعوب نامية متخلفة يحكمها حلفاء اصبحوا بين عشية وضحاها طغاة لم يشفع لهم دعمهم بالأمس القريب لمخططات واتفاقيات صانعي الشرق الاوسط الجديد وبدل الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ عن المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للغرب المتقدم والابن الشرعي له في الشرق الاوسط،
قضي الامر وقرر الاخرون اننا قادرون على خلق انتفاضة، اجزم الاعلام ان ظلم حكامنا لنا بلغ حدا لا يمكن السكوت عنه،وان الاستقرار الذي كنا ننعم به كان على حساب كرامتنا،على حساب تنكر حكوماتنا لتعاليم ديانة جديدة اسمها حقوق الانسان بشر بها انبياء سنوا سنن ابو غريب وتعاليم كوانتاناموا...
لم نسال لسذاجتنا او لغاية في نفس يعقوب لماذا لم يلاحظ الغرب ماساتنا المتراكمة في صبرا وشتيلا ؟ ولماذا لم تنتفض قنوات الاعلام لأجل الذين قضوا في السجون،للمختفين، لمجهولي المصير، لبلدان استعمرت ثقافيا واقتصاديا واستنزفت واستنسخت هوياتها وفق هوى الساسة والمبشرين ورجال المال وشركات التنقيب ؟ وهل وحده الشاب التونسي الكادح من احرق ذاته ؟ ام انه الاول وبعد انتفاضتنا المباركة سيكون الاخير مع العلم اننا شاهدنا حالات حرق واقعا ومجازا قبله وبعده على امتداد بقعة شاسعة اسمها بلاد العرب كما في بلاد العم سام؟

انتشرت البشرى وانتفضت الشوارع،خرج الخلق ليزيحوا من وصفهم الاعلام والغرب بالطغاة، اجتهد القادمون الجدد في شرح مدى تمكن حكامنا السابقون من ابجديات الجاهلية واساليب حكم ممقوتة من طرف الغرب والعالم المتمدن المتحضر اسموها : دكتاتورية،واستبداد وفساد. وصدق الشعب ان حكامنا والأنظمة التي تحكمنا اصابت حسابات بنوك سويسرا بالتخمة وبيننا من لم يجد بعد ثمن الرغيف، وان هوس زوجة الرئيس بشراء الأحذية استنزف خزينة ألبلد، وان عشق ابن الزعيم لاقتناء السيارات الفخمة كان السبب في انتشار عربات الباعة المتجولين التي تجرها الحمير في اسواق البلد، وان نزوات الزعيم الجنسية وفضائحه كلفت خزينة الدولة قوت البسطاء، وان صناديق الاقتراع لدينا رغم ان البعض صفق لشفافيتها لم تفرز زعامات ورؤساء وحكام بقدر ما افرزت امراء وشيوخ عشائر ما تزال تسكنهم روح الجاهلية.

تم التخطيط لكل شيء بدقة وعلى مقاسنا حضروا حكاما جدد، وكالعادة بتفانينا المعهود واندفاعنا ورعونتنا خلقنا استثناءات،اعدمنا زعيما اسموه دكتاتورا في صباح العيد لأنه تجرا وقصف تل ابيب ببعض الصواريخ نصرة لفلسطين.ومند ذالك الحين والسيارات المفخخة والتفجيرات ترسم مشاهد الموت والدمار في شوارع العراق كل يوم،والحكام الجدد الذين قدموا اليها على ظهور الدبابات يتنازعون حول حصص النفط وعلاوات عقود التنقيب.


طردنا حاكما قالو لنا ان زوجته تحكم البلد من غرفة نومه وان عائلتها عاتوا في البلاد فسادا،وانه خنق الاعلام وسجن مدونا ونفى مفكرا يساريا وملتحين، وجعل فنادق البلد محجا للحالمين بأشعة شمس المتوسط الهاربين من صقيع اروبا، ومنع ادان الفجر لينام السياح بسلام.انتفضنا وطردناه وعاد الملتحون ليحتلوا مقعد الرئيس عاد اليساري ليصبح دمية اسميناه رئيسا توافقيا، الملتحون ما يزالون يتناقشون والسلفيون يتظاهرون ويخربون ويثورون لان الحكام الجدد لم يفرضوا النقاب ولم يفرضوا الجزية على سيقان اليساريات والليبراليات المتحررات الكاسيات العاريات، اليساريون منشغلون بالدفاع عن حق المراة في ترك شعرها عاريا وارتداء تنورة قصيرة وحمايتها من تحرش السلفيين وممن استغلوا الفراغ الامني والفوضى التي تعيشها البلد وما صلح حال الباعة المتجولين، ونصيب قبر البوعزيزي مما اسماه العالم ثورة وصدقناه باقة ياسمين،ونصيب تونس رحلة نحو المجهول وجراح تحتاج الى عقود لتندمل، ديون، وفقر،وبطالة، وفساد ووو... نفس اللائحة التي بشرنا النجباء بأنها ستختفي بعد الفوضى اضيف اليها انعدام الامن والجريمة والارتباك.

اغتصبنا وقتلنا زعيما كان يحكمنا صدقنا انه كان مستبدا ومختلا لأنهم قالوا لنا ذالك وهو من كان يمول حملاتهم الانتخابية، وبعده مليشيات تعيد عصر السيبة الى ليبيا تعتقل وتحاصر وتحل مجالس منتخبة بشكل ما لمجرد ان صناديق الاقتراع لم تفرز اسم زعيم عشيرة يجب من وجهة نظرهم ان يتسلم كرسيا او منصبا ولا وجود لدولة ولا قانون.

حاكمنا زعيما اخر في مهزلة وهو على فراش المرض وصدقنا انه طاغية ومهرب اموال لأنهم قالوا ذالك ايضا،حتى الأمس القريب كان شريكا مهما في عمليات السلام وراع للعديد من الاتفاقيات تضمن امن اسرائيل وتحافظ على مصالح الغرب وأمريكا بالشرق الاوسط.مارسنا لعبة الديمقراطية وأنجبت الصناديق حكومة بقيادة ملتحية لتنظيم اسلامي عانى كغيره ليصل الى سدة الحكم،اشاد القاصي والداني بشفافية الصناديق هده المرة، لكن النتيجة كالمعتاد لم تعجبهم فكان لابد ان نحتل الميادين ثانية ونتمرد ونتضامن وننسخ ونزور التوقيعات وندعوا لمليونيات ويتدخل الجيش لنخلق الاستثناء مرة ثانية لدرجة ان الغرب بدا وكأنه محتار في وصف الحدث هل هو عزل ام انقلاب، وهمس العارفون لماذا انبث ما سمي بربيع العرب اينما امطرت سحبه انظمة وحكومات ملتحية ؟

ما زلنا نسعى لنهدم جدار الممانعة بالنيابة ونتولى مهمة التأكد على ان نظام الحزب الواحد والعائلة الواحدة في الشام لا ينوي ترهيب المصطافين من رعايا تل ابيب في منتجعات البحر الميت بغاز السارين، وما دمنا قد بالغنا وتعنتنا واصررنا على خلق جيل جديد من اللاجئين، دخل دعاتنا الافاضل على الخط كما عهدنا في العراق قبل عقد من الزمن، ولأننا مؤمنون جدا عرض المشايخ ورجال الدين فتاويهم في المزاد، أعلن النفير وفتح باب الجهاد،تذكر البعض ان بين اتباع علي وبني امية ثار قديم ودين لم يسدد بعد،وان الوقت ربما قد حان لتسديده والتكفير عن جريمة كربلاء، حفرت تل ابيب وحلفاءها بمكر وذكاء وبرعونتنا وجهلنا وأطماع بعضنا في تقاسم الغنيمة والظفر بكرسي الحكم او الزعامة ولو على حساب الدم والعرض العربي وتشريد الملايين في خيام اللاجئين قبر المقاومة في سوريا، وبدأت ملامح سايكس بيكو جديدة تظهر في الافق وحقيقة ما اسميناه ثوراث وربيع تظهر، بعدما تم تسريب مخططات التقسيم الجديد قصد جس النبض قبل ان يحين الموعد ويتم رسم الحدود وتنصيب الانظمة التي ستسند لها مهمة الاشراف على حمايتها، بمبررات لا تنقصها الشرعية وتوصف بالحليفة والصديقة والشريكة في السلام، ولكل معترض او نادم على ما فات او نظام يريد تصحيح المسار فزاعة جديدة اسمها تمرد بعدما اتضح ان الربيع ليس سوى خريف وان الثورة وهم صدقناه، ومن يدري ربما غدا يزحف السياج ليزور مزارع شبعا من جديد في الجنوب وتتقلص مساحة غزة وتصبح فلسطين نقطة ترى بالمجهر على الخريطة.

هنيئا لنا ولكم هذا الربيع وهنيئا لنا بهذه الثورات ومن رفض الهدية نتمرد عليه ونعلن العصيان ونعزله او ننقلب عليه لا يهم. المهم ان يكون ثائرا وفق منظورهم وان يرى الخريف ربيعا او يرحل ويصبح دكتاتورا ورجعيا وفلولا ونظاما بائدا.

العيون- المغرب