سمع الكثيرون برجل البر والإحسان وصاحب "مدارس الفلاح" في جدة ومكة والبحرين ودبي وبمبي والمكلا الحاج "محمد علي زينل"، وربما عرفوا شيئا عن أصول عائلته وجذورها وفروعها المنتشرة في الكويت والبحرين وغرب السعودية وشرقها، لكني أشك في معرفتهم الدقيقة بنفوذ عائلته التجاري والمالي والإجتماعي والثقافي، وتفاصيل ما مارسته هذه العائلة من أدوار سياسية هامة ومصيرية في ظل عهود وحقب تاريخية حساسة. لذا سنلقي فيما يلي بعض الأضواء على مسيرة الحاج محمد علي زينل من خلال سيرة عائلته العريقة، مستندين في ذلك على مصادر العائلة نفسها طبقا لما أورده الكاتب البريطاني "مايكل فيلد" في كتابه الممتع "البيوتات التجارية الكبرى في الخليج" الصادر عن دار "أوفر لوك" في عام 1985، إضافة إلى ما كتبه آخرون ممن تعاملوا مع العائلة أو كانوا شهودا على بزوغها في دنيا المال والأعمال والسياسة والدبلوماسية.

تبدأ قصة هذه العائلة من الجد الأكبر "علي رضا" (إسم مركب) المنحدر من بلدة قريبة من حاضرة بستك في بر فارس العربي هي "كـَرْمــُسْــتج" (أصلها كاردمـُسّه التي تعني بالفارسية مقبض السكين لأن أهلها إشتهروا بصناعة مقابض السكاكين). سكن علي رضا ميناء لنجه على الخليج العربي حيث كان يمتلك قافلة من الجمال ينقل على ظهورها البضائع من الميناء إلى بلدات فارس الداخلية. وتزوج من إبنة حاكم الإقليم، لكن هذا لم يمنع الأخير من إختطاف إبن علي رضا الصغير (زينل) والإحتفاظ به كرهينة داخل سجن محكم بسبب إختلافهما حول الأمور السياسية والمالية والمذهبية.&

عمل علي رضا المستحيل لاستعادة إبنه زينل (أسم مختصر كثير الإستعمال في بر فارس وهو إختصار لزين العابدين)، وحينما لم تفلح جهوده إتفق مع جماعته على حفر نفق تحت الأرض يؤدي إلى مكان إعتقال إبنه، وما أن تمكن من تحريره حتى فرّ به إلى الميناء حيث تصادف وجود مركب من مراكب آل زاهد (من تجار فارس الذي كانوا قد نزحوا إلى الحجاز للعمل في التجارة) يستعد للرحيل نحو جدة ناقلا السجاد الايراني والتنمباك العجمي، فطلب علي رضا من ربان المركب أن يأخذ ولده معه إلى جدة إنقاذا له مما ينتظره من مخاطر، فلم يمانع الربان خصوصا بعدما علم أن علي رضا يعرف ولي نعمته حق المعرفة، وأن أصولهما ترجع إلى بلدة فارسية واحدة.

وهكذا حل زينل في جدة في أربعينات القرن التاسع عشر وهو في سن الثانية عشرة. في بداية الأمر عمل زينل لصالح آل زاهد في تجارتهم في جدة وسكن معهم، بل وتزوج من إحدى بناتهم (آمنة بنت علي الزاهد)، لكنه إستقل عنهم لاحقا ليدير تجارته الخاصة في المنسوجات والمواد الغذائية (الأرزاق) هندية المنشأ، علما بأن خطوة زينل هذه لم تؤثر سلبا على علاقة المصاهرة او العمل التجاري بين العائلتين، بدليل أن زينل حينما إستدعى أخاه عبدالله ذي السنوات العشر من فارس في عام 1853 ليساعده في تجارته إختار له لاحقا عروسا من آل زاهد هي الشقيقة الصغرى لزوجته، ثم بدليل أن العلاقة بين العائلتين إستمرت كما هي حتى بعد وفاة زوجة زينل وقيام عبدالله بتطليق شقيقة الأخيرة ليتزوج الشقيقان أختين من بنات عائلة آل نصيف الحجازية المعروفة. والملاحظ هنا ان إبنا آخر من أبناء علي رضا وهو حسين قدم الى جدة أيضا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر لكنه آثر أن يعمل في التجارة مستقلا عن أخويه زينل وعبدالله، فيما فضل الأخ الرابع علي أكبر (إسم مركب) البقاء بجوار والده في فارس.

المنعطف او التطور الأهم في مسيرة عائلة "آل علي رضا" حدث في ثمانينات القرن 19 حينما أرسل زينل اخاه عبدالله إلى الهند ليؤسس مكاتب لتجارة العائلة في بمبي وكلكتا. كان الغرض من تأسيس هذه المكاتب هو إيجاد موطيء قدم لآل علي رضا في سوق السلع الهندية تستطيع من خلاله العائلة الحصول على أسعار تفاضلية تمكنها من منافسة تجار الخليج والجزيرة الآخرين ممن كانوا يعتمدون في وارداتهم من الهند على زيارات موسمية لبمبي.

وقد تمكن مكتب العائلة في بمبي بقيادة "عبدالله علي رضا" في عام 1893 من توقيع أول صفقة حديثة مربحة وكانت بخصوص حصول عائلته على الوكالة الحصرية لخطوط مغول البحرية التي كانت تحتكر وقتذاك نقل الحجيج من شبه القارة الهندية الى جدة. وكانت الإتفاقية تقضي بقيام آل علي رضا بأعمال إستقبال البواخر وركابها وتموينها وترتيب رسوها في جدة.

والحقيقة أن الفوائد التي حصلت عليها العائلة من دخولها السوق الهندية في ذلك التاريخ المبكر لم تقتصر على حصولها على تلك الوكالة. ذلك أن تواجد عبدالله وأيضا أبناء زينل الثلاث (محمد علي، ويوسف، وقاسم،) الذين ولدوا جميعهم في جدة في الأعوام 1884 و1885 و1870 على التوالي، ورحلوا إلى الهند للعمل في مكاتب العائلة في بمبي وكلكتا مكــّنهم من التعرف على العالم الصناعي الجديد وسلعه ووكالاته الكثيرة، فضلا عن تعرفهم على أساليب التجارة الجديدة، وتشربهم للمعارف الحديثة ومظاهر الحياة العصرية، وإتقانهم للغات الأجنبية، وتوثيق علاقاتهم مع كبار رجال الأعمال في تلك الحقبة الزاهرة. لذا نجد أنهم بمجرد عودتهم إلى جدة نجحوا في تأسيس أعمال خاصة بهم. فمثلا الإبن الأصغر لزينل وهو قاسم قيل أنه بسبب جدة وبمبي سبق عصره بخمسين عاما لجهة حياته الليبرالية وما كان يتمتع به من علم غزير ودراية بالشئون السياسية وعلاقات مع الجاليات والقنصليات الاجنبية في جدة، ناهيك عن إجادته للغات التركية والعربية والانجليزية والفرنسية والأردية والأمهرية.

ومما عــُرف عن "قاسم زينل علي رضا" نشاطه السياسي والاصلاحي وكراهيته لسياسة التتريك العثمانية. فحينما تأسست جمعية تركيا الفتاة في إسطنبول في عام 1908 من أجل الإطاحة بالدولة العثمانية، وتشكل برلمان لتمثيل شعوب الولايات الخاضعة لسيادة العثمانيين، إنتخب قاسم كممثل عن جدة في هذا البرلمان. وخلال شهر من إنتخابه أختير ضمن وفد تركي للقيام بأول زيارة رسمية للبرلمان البريطاني (ويستمنستر). وحينما كانت قوات الملك عبدالعزيز آل سعود تحاصر جدة إتخذ موقفا مؤيدا لسلطان نجد، بل فتح خطوط إتصال به من وراء ظهر الأشراف، الأمر الذي حدا بملك الحجاز وقتذاك الشريف علي بن الحسين إلى إعتقاله ومحاكمته مع إثنين آخرين في محكمة أصدرت الحكم عليهم بالإعدام قبل أن يصفح عنهم العاهل الحجازي في أواخر أيام حكمه لسبب مجهول. كما كان قاسم (توفي في عام 1927 تاركا وراءه ولدا وحيدا هو مسعود الذي عاش في تركيا وتوفي في العام 1976 ) عضواً في "الحزب الوطني الحجازي" وهو أول حزب سياسي في تاريخ الحجاز في زمن الأشراف، وقد تشكل بطريقة إنتخابية من محمد الطويل رئيساً ومحمد طاهر الدباغ سكرتيراً وعضوية سليمان قابل، وقاسم زينل، وعبدالله علي رضا زينل، ومحمد نصيف، ومحمد صالح نصيف، وعلي سلامة وآخرين كثر، ولعب هذا الحزب دورا في إقناع الشريف حسين بالتنازل عن العرش لصالح ولده علي ومغادرة مكة في عام 1924، كما لعب دورا في إدارة جدة بعد سقوط حكم الأشراف في عام 1926 أي قبل الفتح السعودي لها في العام نفسه.&

أما الإبن الأكبر لزينل وهو الحاج "محمد علي" فتقول عنه موسوعة ويكيبيديا الحرة أنه كان متدينا منذ الصغر، عطوفا على الفقراء والمحتاجين، ومهموما بتعليمهم ومحو أميتهم إلى حد أنه كان يجوب الشوارع ومعه كيس بداخله قروش فضية كي يوزعها على الصبية من أجل ترغيبهم وتشجيعهم على الذهاب إلى المدارس. وهذا نفس ما أورده بالتفصيل "مايكل فيلد" الذي أضاف أن والده أراده تاجرا كبقية أفراد عائلة "آل علي رضا"، ومن أجل ذلك أرسله مع إخوته إلى الهند، لكن محمد علي إكتشف أنه لا يصلح للتجارة وإنما خــُلق ليعمل كمعلم وخطيب، فما كان منه إلا الهرب في عام 1901 أو 1902 من الهند على ظهر إحدى السفن قاصدا القاهرة للإلتحاق بجامعة الأزهر من أجل أن يتخرج منها معلما في الفقه والشريعة. وهنا تختلف الروايات، حيث يقول البعض أن عمه "عبدالله علي رضا" لحق به إلى مصر ليعيده إلى الهند، بينما يقول البعض الآخر أن محمد علي إلتقى في مصر بوالده زينل الذي كان هناك بمحض الصدفة وأن الأخير هو الذي أقنعه بمغادرة مصر والعودة إلى الحجاز. وسواء صحت هذه الرواية او تلك فإن النتيجة كانت واحدة وهو أن محمد علي سمع كلاما مفاده هو: إذا تراجعت عما قررته وعدت إلى جده فسوف نعطيك ما تريد من الأموال لتأسيس مدارس تخرج المئات من المدرسين لتعليم الناس، أما إذا بقيت هنا فإنك لن تستطيع إلا خلق مدرس واحد هو أنت.

ويبدو أن محمد علي إقتنع بمنطق والده فعاد إلى جدة، وحصل بالفعل من والده على بعض المال وأضاف إليه أموالا أخرى من بيع مصوغات زوجته وإبنة عمه "خديجة عبدالله علي رضا"، فتمكن من إفتتاح أول مدرسة نظامية مجانية في جدة تحت إسم مدرسة الفلاح في عام 1905، ثم إفتتح لها فرعا في مكة المكرمة في عام 1909، ومن هذين المدرستين تخرج الجيل الذهبي من أدباء ومفكري الحجاز وتهامة وأيضا كبار تجارهما وموظفيهما الحكوميين. وفي فترة لاحقه أضاف محمد علي إلى فرعي جدة ومكة فروعا جديدة لمدرسته في البحرين ودبي وبمبي والمكلا، لكن هذه الفروع تعرضت للاغلاق تباعا على يد الانجليز بسبب المواقف والآراء القومية لمدرسيها وكان جلهم من أزهريي مصر، على العكس من معلمي الفلاح في جدة ومكة الذين كانوا أتراكا، حيث كانت التركية لا تزال لغة المعاملات والمراسلات والدواوين في الحجاز.

إكتشف محمد علي لاحقا أن مدارسه تحتاج إلى المزيد من الأموال كي تستمر وتتمكن من إبتعاث خريجيها إلى الهند لنيل الشهادات العليا، وأنّ عليه البحث عن مصدر مالي مضمون ومستقل بدلا من الإعتماد على عائلته ومساعداتها. هنا جاء قراره الذي أدخله الى عوالم التجارة من بعد ان كان زاهدا فيها ومستخفا بها، بل القرار الذي أعاده الى المدينة التي هرب منها وهي بمبي.

إستثمر محمد علي إسمه وصلات عائلته التجارية للعودة الى بمبي للعمل في تجارة اللؤلؤ الطبيعي حيث كانت بمبي سوقا لإستيراده وتجميعه وتلميعه وخرقه قبل إعادة تصديره إلى آوروبا. ولأن البحرين كانت وقتذاك مصدر الإمداد الرئيسي لأسواق اللؤلؤ الهندية فقد إعتاد محمد علي أن يزورها في نهاية كل خريف.&

ومن خلال الاتجار باللؤلؤ كوّن محمد علي ثروة ضخمة صرف الكثير منها على أوجه الخير وخدمة المسلمين ونشر التعليم وإبتعاث الطلبة وفتح دور الضيافة وملاجيء الأيتام. ومع تردده على بمبي والبحرين زادت خبرته في تجارة اللؤلؤ فقرر أن يتجاوز في تعاملاته التجار الهنود ويتصل مباشرة بالمشترين الأوروبيين من أصحاب دور المجوهرات النفيسة. ولهذا الغرض سافر في عام 1920 إلى باريس للمرة الاولى، بل وافتتح فيها مكتبا لمزاولة أعماله في المبنى رقم 62 في شارع لافايات التجاري وهو مبنى كان يضم مكاتب كبار المتعاملين في اللؤلؤ والمجوهرات. ولأنه كان يضطر للتواجد في باريس لشهور طويلة فقد اشترى فيها بيتا في جادة الشانزليزيه المعروفة وأثثه بأفخم الأثاث الأوروبي، ليكون بذلك أول عربي من الخليج والجزيرة يمتلك عقارا في العاصمة الفرنسية. ومن خلال مكتبه وبيته الباريسي إمتدت أنشطته إلى لندن وغيرها من العواصم التي أطلقت عليه إسم "ملك اللؤلؤ في العالم".

&ولأن "آل علي رضا" إعتادوا أن يورثوا خبرتهم وأعمالهم إلى أبنائهم وأحفادهم جيلا بعد جيل، فإن "محمد علي" لم يتردد في إصطحاب محمد إبن أخيه عبدالله معه إلى باريس ليعلمه أصول العمل في تجارة اللؤلؤ والألماس وليعرفه على الطبقة المخملية الفرنسية. وتشاء الأقدار بعد سنوات أنْ تــُعين الحكومة السعودية "محمد عبدالله علي رضا"(توفي في عام 1982 ) سفيرا لها في باريس التي عرفها صغيرا مع عمه "محمد علي". وكان هذا بعد أن تقلد الرجل حقيبة التجارة ومن ثم منصب سفير بلاده في الجمهورية العربية المتحدة في أواخر الستينات حينما إنتهت القطيعة ما بين الرياض والقاهرة.

وعلى الرغم من أسفار "محمد علي" الكثيرة وما حققه من صيت وجاه وثروة فإنه ظل ملتزما بزيه الحجازي البسيط المكون من جبة وعمامة ذهبية اللون في كل زياراته إلى أوروبا، كما ظل حريصا على تفقد مدرستي الفلاح في جدة ومكة والسؤال عن طلبتهما ومعليمهما بنفسه، والتردد على البحرين ودبي اللتين إرتبط فيهما بعلاقات وثيقة مع شيوخهما بدليل أن حاكم دبي الشيخ "راشد بن سعيد آل مكتوم" كان يستقبله إستقبال زعماء الدول ويطلق له 21 طلقة مدفعية.

وحينما خسر نحو 90 بالمائة من ثروته بسبب إنهيار أسعار اللؤلؤ الطبيعي كنتيجة لأنتشار اللؤلؤ الصناعي الياباني، رفض الحاج "محمد علي زينل" أنْ يــُشهر إفلاسه، وأصر على سداد ديونه كاملة للمصارف والمتعاملين معه، بل وإقترض من أجل الإنفاق على مدارسه ومن إبتعثهم إلى الخارج ومن آواهم في الملاجيء ودور الأيتام والأرامل.

توفي الحاج محمد علي زينل في عام 1969أي بعد أربعين عاما من وفاة والده زينل. وكانت وفاته ودفنه في المدينة التي أحبها وعمل فيها وعاش فيها جل سنوات عمره تاجرا ومصلحا ورجل بر وإحسان، ألا وهي بمبي جوهرة الهند التي إرتبط فيها الرجل بصداقات مع كبار زعمائها السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الإستقلال "جواهر لال نهرو" ورفيقه المستنير "مولانا أبو الكلام آزاد" اللذين أصرا أن يكون من ضمن الأجانب القلائل الذين رفعوا علم الهند يوم إستقلالها، وذلك إعترافا منهما بدور الرجل في تمتين عرى الصداقة بين الهنود والعرب ومساهماته الإنسانية والإجتماعية والتنموية لخير المجتمع الهندي.

&وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن علاقات "محمد علي زينل" لم تقتصر على زعماء الهند فقط، وإنما إمتدت لتشمل الشريف حسين ملك الحجاز، ومن بعده مع الملك عبدالعزيز آل سعود وأبنائه، والملك فاروق ملك مصر والسودان وخليفته الرئيس جمال عبدالناصر، والملك فيصل الاول ملك العراق، والملك عبدالله ملك الأردن، والملكين الأفغانيين أمان الله ونادر شاه، والامبراطور محمد رضا بهلوي، إضافة إلى علاقات ود وتقدير وإحترام مع كافة أمراء ومشايخ الخليج وسلاطين جنوب اليمن إبتداء من الجدود إلى الأحفاد.

بعد كل ما سبق لا يجد المرء أي قدر من المبالغة في ما قاله عبدالمجيد شبكشي رئيس تحرير صحيفة الندوة السعودية عن "محمد علي زينل" في يوم وفاته من أنه "كان أمة في رجل".

بقي أن نعرف أن "محمد علي زينل" تعرف على سيدة إنجليزية أسلمت على يديه فتزوجها وأنجبت له ثلاث بنات، هن كل ذريته، قبل أن يفترقا بالطلاق.