مما لا شكّ فيه أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الأخيرة بخصوص الأكراد وكردستانهم أثارت حفيظة الكثيرين من "الممانعين" المحسوبين على "محور المقاومة" وعلى رأسهم إيران وأصحاب مشروع "الوطن العربي الواحد"، و"الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة". إسرائيل، كما تبيّنَ من هذه التصريحات، باتت مقتنعة بأنّ استقلال كردستان عن بغداد حان وقته و"أصبح أمراً مفروغاً منه"، بحسب ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لنظيره الأميركي جون كيري.

هذه القناعة الإسرائيلية أكدها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في رسالةٍ وجهها إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، يقول فيها أنه "لا يرى توحيد العراق ممكناً بدون تدخل خارجي كبير، وأن هذا يؤكد انفصال الأكراد عن الأغلبية الشيعية والأقلية العربية السنية"، خصوصاً وأنّ الأكراد "أقاموا دولتهم من الناحية الفعلية وهي ديمقراطية. وأحد علامات الديمقراطية منح المساواة للمرأة" على حدّ قول بيريس.

أما "التصريح القنبلة" فجاء من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أعرب صراحةً عن "دعمه لقيام دولة كردية". والسؤال هنا، هو: لماذا تريد إسرائيل قيام دولة كردستان؟

بالنظر إلى العلاقات المتنوعة بين إسرائيل وكردستان العراق والتي تمتد لعقودٍ طويلة، يمكن القول أنّ هذه التصريحات ليست بجديدة، وإنما جاءت كنتيجة طبيعية ل"العشق الممنوع" الممتد لأكثر من نصف قرنٍ بينهما. الجديد في هذه التصريحات، هو إخراج المسؤولين الإسرائيليين ل"سيرة الحب" بين "العشيقين" من السرّ إلى العلن.

في كتابه "إنهيار الأمل.. العلاقات الإسرائيلية الكردية 1963ـ1975" يلقي مستشار رئيس الوزراء الأسبق إسحاق شامير، الصحفي شلومون نكديمون الضوء على الكثير من خفايا وأسرار علاقات التعاون والتنسيق بين إسرائيل والأكراد بقيادة "الأب الروحي" للنضال الكردي، الملا مصطفى بارزاني، والد مسعود بارزاني، الرئيس الحالي لإقليم كردستان العراق.

البارزاني الإبن كان صادقاً مع نفسه ومع العالم، حين صرّح أكثر من مرّة وبصراحة أنّ "إقامة علاقات مع إسرائيل ليست جريمة". فإسرائيل دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة وواحدة من دول الشرق الأوسط الأكثر ديمقراطيةً وتقدماً، إقتصادياً وعلمياً، عليه لا مانع من حيث المبدأ من إقامة علاقات ديبلوماسية معها، خصوصاً وأنّ العديد من الدول العربية والإسلامية تقيم علاقات متنوعة، ديبلوماسية أو إقتصادية أو ثقافية مع إسرائيل منذ عقود، مثل مصر والأردن والمغرب وقطر وتركيا وأندونيسيا.. إلخ.

وبحسب تصريحٍ لوزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن "الدول العربية والإسلامية تقيم مع إسرائيل علاقات سرية ولا تقدر على الصمود بدونها، لكن إسرائيل تصمد بدونهم، والجميع يستمتععون بالعلاقة معها ولكنهم لا يعترفون".

على الرغم من قناعة الأكراد بأنّ "دعم" إسرائيل لقضيتهم سيمنحها قوة وزخماً كبيرين لتدويلها بإعتبارها واحدة من أكثر القضايا الشائكة في الشرق الأوسط، إلا أنهم حرصوا على الدوام على أن تبقى علاقاتهم معها سرية، لكيلا يثيروا غضب إيران والمحيط العربي، ما سينعكس سلباً عليهم وعلى المكاسب الكبيرة التي حققوها خلال عقدين ونيف في كردستانهم التي تتمتع بشبه إستقلال عن بغداد، فلها رئيسها الخاص بها، ودستورها، وحكومتها، وبرلمانها، وجيشها، ومخابراتها، وممثلياتها في الخارج.

إلا أنّ الطفرة الأخيرة في العلاقات بين الطرفين، خصوصاً بعد تصدير النفط الكردي إلى إسرائيل، ووصول 4 شحنات منه على الأقل (بحسب رويترز) عبر ميناء جيهان التركي إلى إسرائيل منذ بداية العام الحالي، تعود ربما إلى "رغبة كردية" في كسر حاجز الخوف من محيطه "العدو" لإسرائيل، وكشف العلاقة بينما وإخراجها من السر إلى العلن. وتعتبر هذه الخطوة غير المسبوقة بحسب البروفسورة الباحثة في مركز موشي دايان للأبحاث الإستراتيجية التابع&لجامعة تل أبيب، عوفرا بنجيو، "جزءاً من حنكة سياسية أوسع"، ما يعني رفع درجة العلاقات بين الطرفين، في حال حصول الأكراد على إستقلالهم، إلى "علاقات مفتوحة".

علاقة إسرائيل والأكراد قامت بالدرجة الأساس على مبدأ "عدو عدوي صديقي"، فتوزع الأكراد بإعتبارهم أكبر مجموعة عرقية في العالم بدون وطن قومي، بين أربع دول "عدوّة" لا تسمح بقيام أي كيان كردي مستقل، تعيش ثلاث منها (إيران والعراق وسوريا) في حالة من العداء التاريخي المتبادل مع إسرائيل، هذا الواقع الجيوسياسي للأكراد يسهّل من وجهة النظر الإسرائيلية توظيف هذه العلاقة في تحقيق المصالح الإسرائيلية في المنطقة، خصوصاً لجهة إضعاف الخصم وإلهائه بالمشكلة الكردية، التي تعبتر واحدة من أكبر مشاكل الدول الأربعة التي تتقاسم الوطن الكردي كردستان.

الأكراد أثبتوا للعالم "إعتدالهم السياسي" على حد قول نتيياهو، عليه هم لا يشكلّون من المنظور الإسرائيلي خطراً على مصالح تل أبيب في المنطقة، بل على العكس فأن قيام كيان كردي مستقل في المنطقة يعتبر "ذخراً استراتيجياً من الطراز الأول لإسرائيل" على حدّ قول الباحثة المتخصصة في شئون الشرق الأوسط عوفرا بنجيو، لأن ولادة كردستان ستؤدي إلى إضعاف عدة دول هي في حالة عداء تاريخي مع إسرائيل، مثل العراق وسوريا وإيران. تطورٌ كهذا فيما لو حصل سيساعد إسرائيل والأكراد على تدشين علاقة شراكة بين الطرفين، قائمة على أساس مصالح وقيم مشتركة، خصوصاً وأنّ كلا الطرفين يعانيان من عقدة المحيط "العدو" ذاته: كلاهما "غير مرغوب" و"غير مرحبّ بهم" في المنطقة.

إسرائيل وكردستان التي تسمى في أدبيات أهل "المقاومة" و"الممانعة" ب"إسرائيل الثانية، كلاهما، بحسب هؤلاء، "خنجرٌ" في خاصرة شعوب المنطقة.

صعود دولة كردية في المنطقة قد يغيّر معادلات كثيرة ويخفف من صراع النفوذ التاريخي القائم بين "تركيا السنية" و"إيران الشيعية"، ويخلق بالتالي ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل وأمنها القومي.

إقامة كيان كردي مستقلّ، من وجهة نظر براغماتية، هي مصلحة إسرائيلية وكردية متبادلة. فالأكراد يطمحون من خلال هذه العلاقة إلى إقامة وطن خاص بهم يجمعهم، أما الإسرائيليون فيرون في قيام دولة كردية مستقلة في المنطقة تحولاً جيوسياسياً واستراتيجياً كبيراً يخدم مصالح تل أبيب خصوصاً لجهة إضعاف الخصوم التاريخيين، الذين لا يتوانون في وصف إسرائيل ب"الكيان الشيطان"، أو "الكيان السرطان"، الذي لا علاج منه، بحسب هؤلاء، إلا ب"رميه" في أقرب بحر.

غاية الأكراد هي إقامة وطن قومي لهم طالما ظلّ حلماً يراودهم.

وغاية إسرائيل هي أن تضع موطئ قدم لها في الوطن الكردي القادم ك"جزيرة صديقة" في بحر من الأعداء.

إعلان دولة مثل إسرائيل في هذا الظرف بالذات عن دعمها لقيام دولة كردية، له دلالاته الكبيرة، خصوصاً في ظل التطورات الدراماتيكية التي تمرّ بها المنطقة بعد سقوط الموصل وتفجير "داعش" لحدود سايكس بيكو وإعلانه عن "دولة الخلافة الإسلامية" على أراضٍ شاسعة من العراق وسوريا.

العراق ما بعد سقوط الموصل لن يكون كالعراق ما قبل سقوط الموصل.

الكلّ يواجه الآن "عراقاً جديداً" و"من المستحيل أن يعود العراق إلى ما كان عليه قبل أحداث الموصل"، كما قال بارزاني أكثر من مرّة.

سقوط الموصل غيّر الكثير من المعادلات السياسية داخلياً وإقليمياً ودولياً:

المشهد السياسي في العراق بعد سقوط الموصل تغيّر، واللعبة وأوراقها تغيّرت، والمعادلات الإقليمية تغيّرت، والموصل في العراق تغيّرت، والعراق في الموصل تغيّر، والمادة 140 من

الدستور العراقي على الأرض تغيّرت، و"العراق الواحد" تغيّر، والعراقيون تغيّروا، والشيعة تغيّروا، والأكراد تغيّروا، والسنّة تغيّروا، و"داعش التنظيم" تغيّر، و"داعش الدولة" تغيّرت،و العالم كلّه في الماحول تغيّر.

في خطوةٍ غير مسبوقة كلّف الرئيس مسعود بارزاني أمس برلمان كردستان بالإعداد لاستفتاء على استقلال الاقليم الكردي عن العراق.

فهل ستقوم دولة كردستان كما تنبأت إسرائيل؟

&

mail.comhoshengbroka@hot