لعل عنصر اللغة هو أبرز عوامل إعاقة شعوب المنطقة العربية، عن الانتقال من الثقافة الشفاهية للثقافة الكتابية. العقلية الشفاهية هي تلك القائمة على توظيف حاسة السمع، تختزن عن طريقها المعلومات والأقوال المأثورة، لتعيد ترديدها، مزيدة أو منقوصة، وغالباً منحرفة عن الأصل بدرجة أو بأخري، دونما إمكانية تذكر لوضع ما قيل أو يقال، موضع الفحص الجدي والمراجعة. فطبيعة الكلمات المرسلة أو التي يتم إرسالها، وتتبدد في الهواء، لا تسمح إلا بهامش بالغ الضيق، لمثل ذلك التمعن والتأمل. علاوة على تأثير عناصر العاطفة والحماسة ولغة الجسد، التي يتضمنها عادة الخطاب السماعي، كذلك صياغة العبارات الشفاهية، التي غالباً ما تكون ذات جرس موسيقي، ما يساهم في قبول أو رفض الرسالة الشفاهية، بمنأى عن المحتوى الفكري الموضوعي.
أما العقلية الكتابية، فهي تلك التي صارت عن طريق ما تتيحه الكتابة من إمكانيات، مؤهلة لأن تمارس عملية النقد والتحليل والتدبر للرسالة المكتوبة. وهي العملية التي قد يتضح فيها عوار النصوص المدونة أو الشفاهية، كما قد نستخلص ما بها دلالات معرفية. فليست كل رسالة مدونة تعد رسالة كتابية، فالعبرة في توصيف الرسالة هو منهج إنتاجها، شفاهياً كان أم كتابياً، وليس مجرد وسيلة إرسالها، إن كان عن طريق النطق أو التدوين. إذ تبقى الرسائل ذات الملامح والأصل الشفاهي محتفظة بتوصيفها الشفاهي، تماماً كما أن الرسالة الكتابية تظل محتفظة بتوصيفها الكتابي، حتى لو تم إرسالها سماعياً، في خطاب مسموع.
ما قلناه على طريقة استقبال الرسالة، والفرق بين الطريقة الشفاهية والكتابية في الاستقبال، يقال أيضاً على طريقة إنتاج الرسالة، فالمنتِج الكتابي يتاح له تأمل وتدبر أفكاره، والرجوع إلى ماسبق وسطره، ليعيد تنقيحه أو حذفه واستبداله، وهو إذ يفعل هذا، ربما يبدأ عملية إنتاج فكر جديد خلاق، لم يخطر على باله حال الشروع في الكتابة. كل هذا يفتقده منتِج الرسالة الشفاهية، إذ تتدفق رسالته في عفوية وبساطة إلى مستمعيه، وهو يفعل نفس الشيء، حتى إذ ما كان يدون رسالته على الورق. رواية "البوساء" مثلاً لفيكتور هوجو، مدونة بمنهج شفاهي، ونجد فيها ذات ملامح الخطاب الشفاهي، فيما رواية "عوليس" لجيمس جويس، عمل كتابي من الدرجة الأولى. المتلقي الشفاهي كذلك يقرأ المدونة بنفس الطريقة السماعية، فلا يتمهل لتدبر معاني الكلمات، ولا يعود في السطور إلى الخلف، ليحلل ويقارن ويربط الأفكار ببعضها.
إذا كانت هناك العديد من العناصر، التي يمكن بقياسها تحديد درجة تحضر وتطور الشعوب، فلعل أهمها هو تطور الثقافة والعقلية، من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة الكتابية، وتقاس بنسبة الأعداد المتحولة للكتابية في كل أمة. وبالنسبة للفرد تقيم ثقافة وعقلية الفرد الكتابية، بنسبة مكونات المنهج والثقافة الكتابية لديه إلى الثقافة الشفاهية. فرغم أن الطفل الآن يدخل المدرسة ليتقن ويوظف تكنولوجيا الكتابة منذ سن السادسة، إلا أن الوسط الذي ينشأ فيه، من حيث طبيعة ثقافته، يؤثر في درجة تكون عقلية وثقافة شفاهية لديه. ويلاحظ أن نسبة الكتابية في ثقافة وعقلية أي أمة أو فرد، لا تصل أبداً إلى درجة الإطلاق، إذ غالباً ما تظل هناك نسبة شفاهية في ثقافة أكثر الناس تحضراً وتشبعاً بالثقافة الكتابية.
هنا لابأس بأن نغامر بالقول، أن اللغة العربية الفصحى، التي يتعلم الكتابة بها الطفل في المنطقة العربية، تشكل عائقاً كبيراً لعملية التطور من الثقافة الشفاهية للكتابية. فاللغة العربية الفصحى لا تعد "لسان أم"، لأي شعب من شعوب المنطقة. فكل شعب أو مدينة، أو حتى قرية وعشيرة وقبيلة، يكون لها لغتها الخاصة، التي قد نطلق عليها من قبيل التبسيط المخل "لهجة"، رغم أنها تكون في أحيان كثيرة، أقرب إلى لغة خاصة. مثل ما نعرفة بـ"العامية المصرية"، إذ هي لغة تستخدم مفردات في أغلبها عربية، لكنها تقوم في قواعد تركيب الجملة، على قواعد "اللغة المصرية القديمة". لهذا نجد أن الإنسان الأمي المصري، يعجز عن فهم جملة بالعربية الفصحى، رغم معرفته لمعاني مفرداتها كل على حده.
ما يحدث هو نشأة الطفل حتى سن الصبى، وفق تلك اللهجة الشفاهية، وحين يبدأ في تعلم وممارسة الكتابة، فإن ذلك يكون عبر لغة مختلفة بدرجة أو بأخرى، عن "لسان الأم" الذي تربى عليه، وطبع ثقافته وفكره. فاللغة ليست كما يتصور البعض، أداة طيعة نستخدمها في توصيل أفكارنا. لكنها عبر مفرداتها كدالة ودلالة، أشبه بأوعية لمجموعة من الأفكار النمطية المتوارثة، نستحضرها وفق حاجتنا، لنشكل منها الرسالة المراد إرسالها. هنا تكون إشكالية الطفل الذي يبدأ في تعلم الكتابة في سن السادسة، وبالأكثر معضلة تعليم الكبار محواً لأميتهم، أنهم يذهبون إلى تعلم لغة جديدة عليهم هي "العربية الفصحى". لكن الأخطر من ذلك مشكلة الفكر المختزن في مفردات اللغة. إذ يكون مطلوباً ممن يتعلم الكتابة باللغة الفصحى، أن يستوعب مفاهيم وأنماط فكرية تختلف هامشياً أو جذرياً، عن تلك المفاهيم السائدة في مجتمعه الشفاهي، والتي نشأ هو ليرى الحياة من منظورها. وإذا كان من طبيعة الأمور أن تسري المياه في المسار الأسهل، فغالباً ما ينحو الإنسان الذي تعلم الكتابة بتلك "اللغة الجديدة"، إلى الإبقاء على ذات مفاهيمه في "لسان الأم"، خاصة وإن كان غالبية المجتمع على حالتهم الأولى الأمية الشفاهية. هنا قد نجد أحد أسرار ما نرصده من لاجدوى التعليم. إذا يبقى ما تلقنه التلميذ في المدرسة حبيس كراساته وكتبه، ويستمر في حياته بذات المفاهيم التي درج ونشأ عليها.
يساعد على رسوخ وتفاقم "الحالة الشفاهية" أيضاً، أن نظم التعليم ومقرراته في المنطقة العربية، يغلب عليها الطابع الشفاهي والاستظهار، لمقررات مدونة من أصل شفاهي، لتكون النتيجة أن تفقد "تكنولوجيا الكتابة" أخطر مميزاتها، وهي تشكيل العقلية النقدية التحليلية.
العقلية الشفاهية تتعامل مع الكلمات كما لو كانت حقائق مادية واقعية. هي تحارب بالكلمات، تطرب لكلمات طيبة، وتجزع أشد الجزع من كلمات قاسية وناقدة. هي تتخوف من ذكر أسماء الأمراض، لأنها تتصور في الكلمات قوة المرض ذاته. تستند أيضاً في حججها على كلمات مسموعة أو مدونة في نصوص، وليس على وقائع مادية ثابتة. التعاويذ والتمائم استخدام للكلمات بتوهم توظيف القوة المختزنة فيها. وصناعة الأحجبة هي تطبيق كتابي لفكرة شفاهية، تستحضر قوة الكلمات عبر تدوينها بأبجدية أو برموز خاصة.
معرفة القراءة والكتابة وحدها، أو حتى الحصول على شهادات دراسية عالية، لا يكفي لمحو ما يمكن تسميته "الأمية الفكرية". أي الانتقال من "العقلية الشفاهية" إلى "العقلية الكتابية". فالأمر يحتاج للتدريب والتعليم الجيد، ليتعلم الفرد ويستوعب ما أوجدته "الكتابة" من إمكانيات، أحدثت ثورة في مجال الفكر، بما أتاحته من إمكانيات للتركيب والتعقيد في الأفكار.
العقلية الشفاهية تفتقد القدرة على التحليل، وعلى استيعاب الأفكار المركبة. فهي تعتمد في قراءة الأحداث وتفهم الأفكار، على الموروث الشفاهي من القوالب الفكرية، التي تحفظها في شكل أمثلة شعبية أو مقولات مأثورة، أو مفاهيم ذات تركيب بسيط، يقوم على ثنائية التضاد، فهذا أبيض أو أسود، خير أو شر، مع أو ضد. وعندما ترد عليها فكرة مركبة، لا تستوعبها في ذاتها، وإنما تلجأ لتوفيقها مع أقرب قالب فكري تحتفظ به. فتفقد الفكرة المركبة بذلك محتواها. أي يفشل المرسل إليه في استيعابها كاملة. وهنا الصعوبة التي يواجهها صاحب "الفكر الكتابي" مركب التكوين، في إيصال فكره في مجتمع تسودة "الثقافة الشفاهية".
ربما نظرة عابرة على التعليقات التي ترد على عبارات مكتوبة بواسطة "عقلية كتابية"، على صفحات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، تعطينا مثالاً لما نقول، حيث يندر أن نجد تعليقاً، نستطيع أن نحكم عليه أنه قد استوعب ما ورد كاملاً، وبنى تعليقه على هذا الأساس. فالأغلب أن نجد صاحب الرد قد اقتطع من العبارة الجزء، الذي تصادف أن وجد له قالباً فكرياً مختزناً لديه، ليحشر بعضاً من العباره فيه، تاركاً باقي الأفكار بالعبارة وكأنه لم يرها.
مسيرة الحرية والحداثة لشعوب المنطقة، ليست فقط في التخلص من نظم استبدادية، ولا بتوفير مستوى أعلى للمعيشة. فما سيحقق كل هذا وأكثر، هو تطور عقلية إنسان المنطقة، ومبارحة العقلية البدائية البسيطة، إلى نضج عقلية إنسان الحضارة المعاصرة.
[email protected]
&