طيلة سنوات الحرب، نعمت غالبية مناطق ( الجزيرة السورية ) بـ (الهدوء النسبي). لكنها اليوم باتت أخطر مناطق النزاع في العالم . هذه المنطقة الحيوية من (بلاد ما بين النهرين) ، البقعة التي منها بدأ (التاريخ البشري)، قد تتحول في أي لحظة الى ساحة (حرب كونية) مدمرة، مع تدفق الاسلحة الى (القواعد العسكرية) المنتشرة فيها لأعظم قوتيين دوليتين( أمريكا – روسيا) ومع تسخين (خطوط التماس ) بين (جيش الاحتلال التركي) و (الجيش السوري الحكومي). وقد حذرت مجلة ( يوإس آند وورد ربيورت) الامريكية في تقرير لها ، من "أن سوء تقدير أو حادث ما يهدد القوات الأمريكية ، قد يشعل حرباً (روسية - أمريكية) في شمال شرق سوريا ".
مع تضارب مصالح الدول التي تحتل أجزاءً من سوريا ، (الأزمة السورية)مرشحة الى مزيد من (التعقيد والتأزم) والاطالة، قد تمتد لسنوات وربما لعقود أخرى. موسكو تطالب برحيل القوات الأميركية عن كل الأراضي السورية و خروج جميع القوات الأجنبية من سوريا باستثناء تلك التي جاءت بناءً على طلب الحكومة الشرعية في دمشق. الرئيس التركي ( اردوغان) رد على موسكو بالقول "إن بلاده لن تخرج من سوريا قبل انسحاب الدول الأخرى منها ، وبأنها ستواصل هجومها عبر الحدود ضد المقاتلين الأكراد إلى أن يرحلوا جميعاً من تلك المنطقة " . طهران، من جهتها، أكدت على أن وجودها في سوريا شرعي وقانوني لأنه حصل بطلب من دمشق. أمريكا طوت (قرار الانسحاب من سوريا ) حتى إشعار آخر، رغم دحر (تنظيم الدولة الاسلامية – داعش الارهابي)، الهدف الذي تذرعت به لإقامة قواعد عسكرية لها في الشمال الشرق السوري. (دونالد ترمب) أعلن بأنه سيُبقي قوات أمريكية " لحماية حقول النفط والغاز ، لتمويل القوات الكردية وقسد". تقارير صحفية ، منها صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) الأمريكية، تتحدث عن موافقة ترامب (على التعاقد مع الشركة الإسرائيلية ،غلوبال ديفيلوبمنت كوربوريشن GDC، لاستثمار حقول النفط والغاز في منطقة شرق الفرات) . ضارباً بعرض الحائط ، (القانون الدولي) الذي يقضي "أن تكون السيادة على الموارد الطبيعية لحكومة البلاد وليس لسلطة المحتل الأجنبي". وفق مقربين من إدارة ترامب، ثمة (استراتيجية أمريكية) جديدة للأزمة السورية، تقوم على إطالة أمد القوات الأمريكية على الاراضي السورية، لأهداف وغايات سياسية " الإمساك بورقة تفاوضية في وجه الخصم الروسي للوصول لحل سياسي للأزمة السورية ، يضمن مصالح أمريكا ومطالبشركائها الأكراد ". المطالب التي رفضها ويرفضها الرئيس الأسد ويعتبر ما يسمى بـ "الادارة الذاتية " (خطوة انفصالية) لا يمكن لدمشق أن تقبل بها تحت أي ظرف . ربط الوجود العسكري الأمريكي في سوريا بـ (أجندات سياسية)، عزز شكوك (السوريين والروس والاتراك والايرانيين) من وجود نوايا لدى واشنطن لتقسيم سوريا وإقامة "دويلة كردية" شرق نهر الفرات.
تحدياً لـ( الابتزازات الأمريكية والأجندة التركية )، سارعت روسيا الى إنشاء (قاعدة عسكرية) لها في (مطار القامشلي المدني)، على بعد نحو كم واحد فقط عن (القاعدة العسكرية الأمريكية) في قرية (هيمو). للقاعدة الروسية، أهمية سياسية، الى جانب الأهمية العسكرية، تأتي من خصوصية وأهمية ( القامشلي)، كبرى مدن الجزيرة السورية والمحاذية للحدود التركية، تضم أكبر التجمعات السكانية (الكردية – السريانية الآشورية – الأرمنية). القاعدة الروسية في مطار القامشلي ، ستعزز (النفوذ الروسي) على (حزب الاتحاد الديمقراطي - pyd)، الذي يتخذ من القامشلي "عاصمة سياسية " لما يسمى بـ"الإدارة الذاتية" التي اعلنها من طرف واحد ، و للحزب تتبع (قوات حماية الشعب الكردية) التي تشكل غالبية (قوات سوريا الديمقراطية – قسد ). موسكو ، غير راضية عن مستوى التزام قوات (قسد) بمذكرة التفاهم ( الروسية - التركية) الموقعة في 22 أكتوبر في أعقاب (العدوان التركي – نبع السلام) والتي حظيت بموافقة النظام السوري والقيادات الكردية. رئيس الدبلوماسية الروسية (سيرغي لافروف)، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الأيسلندي (غودلاغور) في موسكو يوم الثلاثاء 26 تشرين الثاني الجاري، شدد على أنه " لا يمكن ضمان حقوق الأكراد إلا في إطار سيادةسوريا ووحدة أراضيها"، وحث " المليشيات الكردية على الدخول في حوارشامل متكامل مع الحكومة السورية" . وقال لافروف" أن اهتمام الأكرادبالحوار مع دمشق وبالمذكرة (الروسية- التركية)، قل بعد تراجع واشنطن عن قرار سحب قواتها من الشمال السوري". بمعنى عاد الأكراد للرهان على الأمريكان في تحقيق تطلعاتهم القومية والسياسية في سوريا.
(اسرائيل)، الغائب الحاضر في كل تفاصيل (المشهد السوري)، لم ولن تتردد بضرب (المواقع العسكرية الايرانية على الاراضي السورية) حينما تشاء وحيثما تريد. اسرائيل أظهرت اهتماماً لافتاً ومثيراً بأكراد سوريا وهي لم تخف قلقها على مستقبلهم. يرجح أن (اللوبي اليهودي) في أمريكا ، مارس ضغوطاً على الرئيس ترامب لأجل التراجع عن قرار سحب قواته من سوريا وعدم التخلي عن الأكراد . طبعاً، ليس حباً بالأكراد، وإنما لأهداف ومصالح استراتيجية تخص (دولة اسرائيل) المحاطة بـ(دول ومجتمعات عربية اسلامية) تنتظر اليوم الذي تكون فيه قادرة على "إزالة اسرائيل من الوجود ورمي اليهود في البحر ". وفق ما نشرته جريدة (الشرق الأوسط) يوم 6 تشرين الثاني الجاري، قالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي (تسيبي هوتوفلي) أمام البرلمان " إن إسرائيل تساعد أكراد سوريا. إسرائيل لها مصلحة كبرى في واقع الأمر في الحفاظ على قوة الأكراد والأقليات الأخرى في منطقة شمال سوريا بوصفهم عناصر معتدلة وموالية للغرب". وتابعت(هوتوفلي ) " الانهيار المحتمل للسيطرة الكردية في شمال سوريا هو سيناريو سلبي وخطير بالنسبة لإسرائيل. من الواضح تماماً أن مثل هذا الأمر سيؤدي إلى تشجيع العناصر السلبية في المنطقة بقيادة إيران".
سليمان يوسف يوسف .. باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
التعليقات