بعد ماراتون طويلٍ وعسيرٍ من المفاوضات المناورات والتنازلات، كشف رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ عن حكومته المُكوّنة من ثلاثين وزيرا وكاتبان للدولة والأهم من كل ذلك تعيين امرأة على رأس وزارة سيادية هي وزارة العدل، لأول مرة في تاريخ تونس. إطالة المفاوضات التي قد تكون تكلفتها الاقتصادية ثقيلة على تونس، لم يكن بسبب الاختلاف في الرؤى الاقتصادية و الاجتماعية و لا حول المقاربات الاقتصادية الواجب اتباعها مستقبلا لإنعاش الاقتصاد التونسي، و إنما بحسب حسابات سياسية لتقاسم كعكة الحقائب الوزارية و تمكين الأحزاب من مفاصل الدولة كل حسب حجمه النيابي.

ليس أمام البرلمان التونسي الأربعاء المقبل غير التصويت على حكومة الفخفاخ و رئيسها المعين من طرف رئيس الدولة بعد ان فشل حزب النهضة الإسلامي في فرض مرشحه الحبيب الجملي بسبب تراجع رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي الثاني في مجلس النواب بعد النهضة، عن دعم حكومة النهضة في اللحظات الأخيرة من المفاوضات، لأن عدم التصويت يعني بكل بساطة، حل مجلس النواب و الذهاب لانتخابات تشريعية مبكرة قد تعصف بمقاعد نواب كثر جاءوا بنظام أكبر البواقي عوضا عن الأفضلية في النضال السياسي و العمل الميداني.

هو اذن سيف رئيس الدولة قيس سعيد الذي لوح به في حال عدم التصويت لحكومة الفخفاخ بالمرور الى تفعيل الفصل 89من الدستور وحلَ المجلس. هذه الآلية الدستورية سوف تطلق يد رئيس الجمهورية في اصدار الأوامر والمراسيم الى حين تشكيل المجلس النيابي الجديد وذلك متى عنّ له ذلك، وهو ما تخشاه الأحزاب الفائزة في أكتوبر الماضي.

بدوره لعب رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد دورا محوريا في الإطاحة بحكومة الحبيب الجملي، حسب تصريحه في احدى الحوارات التلفزيونية حتى لا تتمكن حركة النهضة من التغلغل في مفاصل الدولة علما و ان يوسف الشاهد نفسه كان تحالف مع النهضة لعزل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في اطار خطة كان الهدف منها دعم حركة النهضة ليوسف الشاهد في الانتخابات الرئاسية و عدم تقديم مرشح لها على ان تتمكن النهضة من مجلس النواب و يقع تقاسم الحقائب الوزارية بين حزبي تحيا تونس و النهضة لاحقا و الدخول تحت مظلة الحكم الثنائي القوي الذي يمكّن الحكومة من القيام بالإصلاحات الكبرى رغما عن "لاآت" الإتحاد العام التونسي للشغل الرافض قطعا لإصلاحات حكومة يوسف الشاهد. كما رشح حزب الشاهد الياس الفخفاخ ودعّم حظوظه لدى رئيس الجمهورية.

كل هذه العوامل والظروف وخاصة الصراع المعلن بين يوسف الشاهد من جهة واتحاد الشغل والنهضة من جهة أخرى حوّل حكومة الياس الفخفاخ الى حكومة طوق نجاة مؤقت الى حين إعادة ترتيب البيت الداخلي لكل من الإتحاد العام التونسي للشغل وحركة النهضة فقد اتفقا الطرفان على ضرورة التخلّص السريع من يوسف الشاهد وحكومته حتى وان لم يستجب الياس الفخفاخ لشروط النهضة في تشكيل حكومة وحدة وطنية واختياره الذهاب الى البرلمان دون قلب تونس. فالقبول بحكومة بالنسبة لهما بلا "قلب" في انتظار ان يعدل الياس الفخفاخ من أوتار خياراته مستقبلا، خير من استمرار حكومة الشاهد الذي وصفها نور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد الشغل، بأنها كانت تبشر بأكبر ديكتاتورية عرفتها تونس.فالمسألة بالنسبة لإتحاد الشغل أصبحت مسألة حياة او موت.

في غياب حزب قلب تونس عن الحكومة الحالية سوف يجد حزب النهضة نفسه في وضع الدفاع المستمر عن وجوده وسط حالة من الشك و الريبة لدى قيادته من إمكانية اقصاءه من الحكم مستقبلا في حال تمكنت ما توصف بالقوى التقدمية و الديمقراطية من استمالة كتلة نبيل القروي الى صفَّها و بذلك تحول حزب قلب تونس الى فاعل أساسي في المشهد النيابي التونسي يمكن له ان يرجح كفّة هذا الطرف او ذلك حتى بمجرد بقاءه في المعارضة.

باختياره تشكيل حكومة استبعد منها قرابة ربع نواب الشعب ومسنودة أساسا و خاصة من رئيس الجمهورية المحدود الصلاحية، كيف سيواجه الياس الفخفاخ كمْالمشاكل المتراكمة منذ سنوات؟ فقد تحدث رئيس الحكومة المكلف عن خطوط عريضة في علاقة بالمشاكل الاقتصادية و الاجتماعية في حين يعلم الجميع ان إيجاد حلول للبطالة و الفقر و التهميش و العجز التجاري و غيرها من المشاكل يتطلب حدا ادنى من التوافق و الثقة و العمل المشكل.

توافق على برامج مشتركة يجتمع حولها مختلف الفاعليين السياسيين يبدو هشا الآن في ظل معارضة ربع البرلمان. و ثقة مفقودة لاحت بوادرها في اختلاف الرؤى بين الفخفاخ و حركة النهضة و أيضا بين رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي و رئيس الدولة.

وسط تشعبات وتقلبات المشهد السياسي والحزبي التونسي وحتى وان لم تضم حكومة الفخفاخ قلب تونس، فإنه مدعو للحوار والتشاور مع الإتحاد العام التونسي للشغل والاتفاق على عقد اجتماعي يجنّب البلاد مزيدا من إضاعة الفرص لأن الإتحاد حتى و ان أراد البعض حصر دوره في الجانب المطلبي و الاجتماعي البحت فإنه كان دائما في قلب المعادلة السياسية في البلاد.