سارعت القوى الثورية، اليسارية و الإسلامية، اشهر بعد ثورة 14 جانفي 2011، الى الإطاحة بالنظام السياسي و الإنتخابي و الحزبي القائم منذ اكثر من نصف قرن. نظام رئاسي قائم على الحزب الواحد و بعض الأحزاب المعارضة الصورية. كانت الغاية من المجلس الوطني التأسيسي حينها، التأسيس لأركان الجمهورية الثانية على قواعد فصل السلط و دعم النظام الديمقراطي و صونحقوق الإنسان وتكريس حرية التعبير و حق الفرد في الحرية و الكرامة و التشغيل التي كانت شعار الثورة التونسية.

كان احمد نجيب الشابي المعارض التاريخي لنظام بن علي و زعيم ما يوصف بالمعارضة الوسطية السياسي الوحيد الذي غرد خارج سرب الاندفاع الثوري، حين اعترض على حل حزب التجمع الحاكم حينها متمسكا بالمحافظة على النظام الرئاسي مع إدخال بعض التعديلات على دستور الجمهورية الأولى. كثيرون فيما بعد أدركوا انه كان لموقف نجيب الشابي الكثير من الصواب و الحنكة السياسية.

ذهبت تونس في خيار كتابة دستور جديد و إرساء نظام سياسي شبه برلماني يحد من صلاحيات الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب التونسي و يمكن رئيس الحكومة المفوض من البرلمان او من رئيس الجمهورية في أقصى الحالات و بحسب آلية دستورية معينة، يمكنه من جميع صلاحيات السلطة التنفيذية تقريبا. وضع هجين دفع بالعديد الى التساؤل كيف لرئيس منتخب ان تكون صلاحياته اقل من رئيس حكومة مفوض؟هذه إحدى تناقضات دستور تونس المفخخ التي بدأت تبرز للعيان بعد اقل من اربع سنوات فقط على المصادقة على دستور 2014 الذي وصف حينها بأحسن دساتير العالم...

كان صراع النفوذ بين الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي و رئيس حكومته يوسف الشاهد على أشده حول من يتحكم في خيوط السلطة التنفيذية،فالمنطق السياسي يقول ان رئيس الحكومة المفوض من البرلمان اومن رئيس الدولة يجب ان يبقى وفيا لهذا التفويض. هذا هو المنطق أوبالأحرى الأخلاق السياسية بطبيعة الحال،غير ان الدستور التونسي مكن رئيس الحكومة من آلية "التمرد" على مفوضيه حين يكون مجلس النواب مشتتا لا يحظى فيه حزب بعينيه أو حزبين بأغلبية مريحة تمكن من سحب الثقة في حالات "التمرد" و عدم الامتثال لسياسة السلطة التشريعية و سياسات رئيس الدولة، و هذه معضلة أخرى لا يختص بها إلا النظام السياسي التونسي الهجين.

لا يمكن فصل ما تعيشه تونس اليوم من غموض في قراءة الدستور و تأويله في اتجاهات مختلفة و متناقضة في كثير من الأحيان ،عن حالة دستور تونس الملغم بتأويلات متعددة أصبحت ملجئ السياسيين لتمرير رؤيتهم للحكم حتى أصبح تأويل الدستور فضاءا للصراع السياسي عوض صراع البرامج و الرؤى.

بني دستور الجمهورية الثانية على سياسة تجزئة المجزء و تفكيك المفكك بين السلط، تشريعية، تنفيذية و هيئات و مجالس محلية، و في مناخ من انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين و خاصة بين ما تسمى بالقوى التقدمية من جهة و حزب النهضة الإسلامي من جهة أخرى. عللت كل الأطراف هذا التوجه بدعوى الخوف من شبح عودة الدكتاتورية و حكم الفرد الواحد حتى استحال أخذ القرار وتعذر رسم سياسة عمومية تصلح لإنقاذ البلاد من حالة العطالة و العجز.

يحمل دستور تونس بذرة تناقضاته من نظام أكبر البواقي الإنتخابي القائم هو بدوره على تشتت المشهد الحزبي حتى لا "يتغول" أي حزب على المشهد الحزبي و يتمكن من الإستفراد بالحكم لوحده. انه في الحقيقة هاجس الخوف من الآخر و غياب للثقة بين الفاعلين السياسيين مما حول الساحة السياسية التونسية الى صراع ايديولوجي و هووي عقيم في غياب البرامج و الحلول ا للأزمة الاقتصادية و الاجتماعية العميقة.