عندما انتهى المؤذن ذو اللحية الكثيفة، القابض على مكبر الصوت "المايك" من الأذان، ووصل إلى عبارة "صلوا في بيوتكم.. صلوا في رحالكم"، اختنق صوته، وهزه البكاء بشدة، ولم يستطيع أن يكمل.

في الوقت نفسه، بكى عشرات الملايين من المسلمين، وهم يشاهدون أو يستمعون إلى المؤذن.. يا الله لن يستطيعوا الصلاة جماعة في المساجد. (ملحوظة: المساجد دائمًا فارغة من المصلين في الصلوات الخمس، طوال أيام الأسبوع، باستثناء صلاة الجمعة).

ظننت ـ وبعض الظن ليس إثمًا ـ أن وباء كورونا، الذي يخطف الأحباب من بيننا، ويمنع أهلهم وأصدقاءهم من وداعهم أو على الأقل مساندتهم في تلك المنحة، سوف ينقي القلوب، ويزرع فيها الحب والرحمة، ولكن خاب ظني، فتلك المشاعر سرعان ما ثبت زيفها، أو بلغة أصحاب التجارة " مشاعر تايواني" مقلدة مضروبة.

اتخذ علماء الإسلام، قرار إغلاق المساجد ومنع صلاة الجماعة، بناء على نصائح منظمة الصحة العالمية وزارة الصحة المصرية، والهدف من الإغلاق هو منع التجمعات التي تؤدي إلى الإصابة بفيروس كورونا، لأن "صيانة النفس البشرية هو أسمى مقاصد الشريعة الإسلامية"، حسب بيان شيخ الأزهر.

بعض الناس، من أصحاب المشاعر الدينية "المزيفة"، أبى إلا التجمع والتظاهر، بل والاشتباك مع أسر متوفين نتيجة الإصابة بفيروس كورونا، لمنع دفن الموتى في مقابرهم، في تحد واضح لكافة الأعراف والتقاليد والشرائع، وإنكار لمشاعر الجيرة والمودة.

لم أصدق ما جرى في الواقعة الأولى بقرية بولس مركز كفر الدوار محافظة البحيرة شمال غرب مصر، عندما رفض الأهالي دفن والد طبيب توفى بسبب كورونا، واعتبرتها واقعة شاذة، وربما تكون ناجمة عن خلافات شخصية مع أسرة والد الطبيب المتوفى.

شاهدت بعض مقاطع الفيديو المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر قوات كثيفة من الشرطة تطارد مجموعات من الناس، وهو يتظاهرون، رفضًا لدفن والد الطبيب. لم يكن المشهد طبيعيًا، هناك شيء ما خاطيء.. قلت في نفسي!

تكرر السيناريو نفسه في عدد من القرى بمصر، منها قرية "شبرا البهو" في محافظة الدقهلية. واعترض الأهالي على دفن طبيبة توفيت، بعد إصابتها فيروس كورونا في قريتها. وتجمهروا أمام سيارة الإسعاف ورفضوا دخولها المقابر، ووصل الأمر إلى حد الاشتباك مع قوات الشرطة، التي ألقت القبض على 13 شخصًا منهم.

وفي شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، منع الأهالي دفن جثمان سيدة توفيت نتيجة إصابتها بفيروس كورونا، واضطر أحد رجال الأعمال إلى التكفل بدفنها في مقابر خارج المنطقة.

"يا مثبت العقل والدين يا رب"، جملة يرددها المصريون، كلما شاهدوا أمرًا شديد الغرابة، وهل هناك أغرب من منع دفن الميت في مقبرته؟ وتركه ليرتاح في رقدته الأخيرة؟ ألا يحفظ الجميع مقولة "إكرام الميت دفنه"؟

الأبحاث الطبية أثبتت أن الفيروس ينتقل بطريقة رئيسية من خلال التعرض لرزاز شخص مصاب. وعلى حد علمي، الشخص الميت، لن يعطس، ولن يتنفس، وإذا عادت له الروح وتنفس أو عطس، فهو مغطى بكيس وأربع طبقات من الكفن، ولن يخرج ليجري خلف المشيعين، كما أنه لن ينقل العدوى إلى جيرانه من الأموات في المقابر.

بعض الذين زلزلهم البكاء، بسبب إغلاق المساجد هم أنفسهم من يمنعون دفن الموتى أو الصلاة عليهم، هم أنفسهم من يحملون في أيديهم هواتف محمولة "موبايلات" تتضمن تطبيقات إسلامية مثل "القرآن الكريم" و"التسابيح" و"المؤذن"، وفي الوقت نفسه يخبئون تطبيقات للتعارف وتيك توك، بل وصور ومقاطع فيديو إباحية.

هؤلاء الناس المزيفون هم تمامًا مثل موبايلاتهم، يختلط فيها الخير بالشر والحب بالكراهية، الديني المقدس بالإباحي الشيطاني. يبكون لسماع لتلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ويرقصون على أغاني حمو بيكا " هاتلى فوديكا وجيفاز.. ده يبيع أمه بقرش حشيش". وحسن شاكوش: "أنا مليش صحاب.. أصل أنا صاحبي الجنيه".. أو أغاني "يخرب بيت يا كيف"، أو "بنت الجيران".

هؤلاء هم من يستهلون أفراحهم بتلاوة القرآن أو أنشودة "أسماء الله الحسني"، ويسهرون حتى الصباح يرقصون على أغاني المهرجانات والإسفاف، ويتمايلون ويتحرشون بالبنات العارية على خشبة المسرح بالشوارع، ويتعاطون المخدرات، ويعتبرونها "واجب وتكريم". وعندما يرتفع آذان الفجر، يخفضون أصوات السماعات العملاقة، وتتوقف الراقصات العاريات عن هز أردافهن وصدورهن بعهر فاضح، وتتجمد الأصابع وهي تلف سجائر الحشيش، لبضع دقائق، ثم يعودون لما بدأوا.

الذين منعوا دفن الموتى، لا يؤمنون بقول الله تعالى في سورة التوبة الآية 51: " (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، حتى وإن تمتموا بها في سرهم ونجواهم.

لماذا يفعل هؤلاء الناس كذلك؟ لماذا يخاطرون بحياتهم، ويعرضون أنفسهم الإصابة الفيروس، بسبب التجمع بهذه الأعداد الكبيرة؟ ولماذا يضعون أنفسهم في موضع المخالف للقانون، وقد يتم القبض عليهم وإلقائهم في السجن؟!

تلك الأسئلة تتشابه إلى حد التطابق مع التساؤلات المزمنة التي يطرحها الخبراء والباحثون في شؤون الجماعات المسلحة، عندما يقدم إرهابي على تنفيذ عملية انتحارية: لماذا يلقي هذا الشاب نفسه في الهلاك؟ لماذا يضحي بروحه بهذا الثمن البخس؟!