يقول الفلسوف الألماني هيقل قبل مئتي سنة : بداية الروح الجديد هي نتاج هدم واسع لأشكال ثقافية متعددة -المكافأة بعد درب متلوٍ من جهد وتوتر هما أيضا متعددان .انتهى قول هيقل .
ويؤكد قول هيقل ما تشهده البشرية في عصر كورونا من هدم واسع لأشكال ثقافية عالمية متعددة كانت سبباً في نشر الإرهاب العالمي بمختلف أشكاله حتى أصبحت آدمية الإنسان رخيصة مقابل المدفع والصاروخ والحزام الناسف والقنبلة.
ويعتقد الناس أن الحروب الكبيرة كالحروب العالمية الثانية ، وكذلك الكساد الإقتصادي الكبير مثلما حدث عام ١٩٢٩م، والأوبئة المرضية الكاسحة لكل مساحات الكرة الأرضية . يعتقدون أنها التي تسبب التغييرالنفسي والسلوكي وحتى الحضاري للأمم ، بحيث تولد أمم من جوف تلك الأزمات ، وتختفي أمم . بينما الصحيح أن تلك الأزمات والنوازل الكبيرة ليست إلا محطات فارقة في حياة الأمم تعلن بداية مرحلة بشرية جديدة كنتيجة حتمية لتراكمات ما قبل النوازل
، وليس كنتيجة لوقع النوازل ذاتها.
صحيح أن لكل مرحلة جديدة من مراحل التطور البشري ضحايا كثيرون وأثمان عالية تدفعها الشعوب كأمر حتمي لذلك التطور ، لكن ما ستشهده الأجيال القادمة من تطورات مابعد النوازل سيكون حتماً أعظم مما قبلها .
أما من يكون سيد المرحلة الجديدة ، فلن يتعدى أولئك الذين سيحملون معهم قوة القيم الإنسانية العظيمة حسب نسبية الإيمان بتلك القيم ونسبية الإخلاص في سبيل الدفاع عنها .
قد تكون المرحلة فرصة مناسبة كي تعيد بعض القوى الكبرى إعادة صياغة ذاتها بما يجعلها تعود إلى إحترام تلك القيم الإنسانية العظيمة. وقد تكون إعلاناً عن بروز قوة أكثر استحقاقاً لتبوؤ السيادة العالمية ، ليس لأنها الجمهورية الإفلاطونية القادمة ، وإنما لكونها القوة الأكثر نسبية في تعاطيها الإيجابي مع القيم الأخلاقية التي تحترم حقوق الإنسان وحرية الشعوب واستقلاليتها، وتملك شعوراً عالياً من الرحمة التي لا تسيء استخدام القوة نتيجة استسلامها لغرور السلطة ووحشية القوة .
ثم يذهب الناس هذه الأيام لترشيح الصين كقوة عظمى قادمة لتأخذ مكانها كسيدة العالم الجديد بديلاً لسيدة العالم الحالي ( أمريكا) . وهناك من يعارض الفكرة ويعتقد أن الصين ليست مؤهلة لذلك المركز القيادي العالمي . لكن مالم يدركه المناصرون لأمريكا... وأنا أحد عشاقها المنافحون عن قيمها ، أن خللاً واضحاً قد أصاب أمريكا ، ليس بسبب نازلة الكورونا ، وإنما كنتيجة حتمية لتراكمات سنوات وعقود ما قبل النازلة.
ومالم يدركه عشاق أمريكا ، أنه حتى وإن لم تتضح نتيجة السباق بين أمريكا والصين نحو الجلوس على كرسي السيادة العالمية ، فإن الصين قد حققت نصراً كبيراً معنوياً ونفسياً على أمريكا أخطر من إنتصار في حرب نووية ، وغير مدعوم بإعلام صيني ليس له أثر عالمي ، وإنما تحقق ذلك النصر بدعم كامل غير مقصود من الإعلام الأمريكي الذي يتقاسم العداء مع رئيسه الذي لم يجد التعامل مع إعلام بلاده بذكاء ، الرئيس الذي جاء للرئاسة كنتيجة طبيعية لحقيقة الشعب الأمريكي ماقبل كورونا ، تلك الحقيقة التي مثلها الرئيس ترامب خير تمثيل ولم يمثل نفسه مثلما يعتقد البعض بقدر ما كان إنعكاساً للواقع الأمريكي الذي يقف الآن حائراً بين أمرين لا مناص من أحدهما:
أما ١- إعادة صياغة أمريكا وإعادتها الى قيم دستورها العظيمة .
أو ٢- الإستمرار في الهبوط من شجرة سيادة العالم ، لتكون القوة الثانية بعد الصين ، أو على الأقل : لتكون القوة الموازية في عالم ثنائي الأقطاب ، فلايكون العالم تحت سيطرة قطب واحد .
إن أي من الأمرين بالنسبة إلى أمريكا صعب وعليها أن تتجرع المر بسببه ، وستدفع أثماناً غالية ، نتيجة إعادة الصياغة كسنة كونية لكل أمة تطمح في الإستمرار كقوة متفوقة أو منافسة، بعد أن فرطت في تقدير تلك القيم بسبب غرور القوة .
أويكون الثمن نتيجة التنازل عن مركز السيادة الذي يسبب جروحاً لا تندمل لكرامة عزيز قوم هبط .
وسبحان من قال ( وتلك الأيام نداولها بين الناس).
والمداولة الكاسبة : مكافأة إلهية للمستحق الأفضل الذي يعمر الأرض بأعلى نسب القيم الإنسانية والأخلاقية العظيمة بقطع النظر عن دينه أو معتقده !


[email protected]