لم تكن مصر عبر تاريخها الطويل حائط صد أمام أي هجرة، فقد كانت دائما مفتوحة الأبواب أمام كل من ضاقت به أرضه، مفتوحة الزراعين للغريب والقريب، لا تضيق بالضيف العابر، ولا المقيم الدائم ..كانت ولا زالت من أسهل بلاد العالم للإندماج فيها، شعبها من أطيب شعوب العالم، لا يضيق أن يشاركه الضيف رزقه ولا عيشه.

تذكرت كل ذلك وأنا في أسبانيا واقفا أمام أحد بيوت" الموريسكيين" الأسبان أتأمل فنونه وتصاميمه الأندلسية الإسلامية الخلابة، وكأن المنزل بقي ليذكر كل من يمر بأسبانيا بحضارة العرب في الأندلس.

فقد كانت مصر محطة مهمة لهجرة الموريسكيين بعد سقوط الأندلس، لم أكن أعرف الكثير عن الموريسكيون قبل مشاهدتي لهذا المنزل الذي يحمل كل سمات الحضارة العربية في الأندلس، أما من هم الموريسكيين؟ فهو الاسم الذي أطلقه ملوك أسبانيا على المسلمين الذين ظلوا في أسبانيا بعد السقوط الكبير، وقد تعرضوا وقتها لأبشع أنواع التعذيب، والضغوط للاندماج في المجتمع الجديد، لاسيما التنصير وترك دينهم، لكنهم ظلوا يمارسون عقيدتهم سرا وقد حافظوا على ثقافتهم العربية وديانتهم الإسلامية، وبقوا محط ملاحقة ومتابعة من طرف الكنيسة ، والملكية إلى أن تم طردهم، واختلف المؤرخون الأسبان حول عدد المطرودين آنذاك .

آلالاف الكتب والمراجع التي تحكي تاريخ العرب في أسبانيا منذ بداية الفتح إلى السقوط الكبير بتسليم غرناطة في عام 1492 وهذا هو تاريخ بداية النهاية لحضارة الأندلس، التي استمرت ثمانية قرون كاملة، كانت فيها منارة المعرفة والعلوم التي تضئ سماء أوربا كلها، وكانت منهل العلم الذي نهل منه أبناء ملوك أوربا الذين أرسلهم أباءهم للتعليم في الأندلس.

لا أريد أن أتوه في ثمانية قرون من الانتصارات والإخفاقات التي انتهت بتسمية العرب بعد سقوط الأندلس بالموريسكيين، وهي تسمية عنصرية تعني أصحاب البشرة السمراء، لكن العام 1502 في 14 فبراير منه كان تاريخا فارقا في حياة عرب أسبانيا، فقد صدر مرسوم ملكي بتعميد المسلمين قصرا، وتحت التعذيب ونصل السيوف، تظاهر المسلمون باعتناق المسيحية، لكنهم استمروا في ممارسة عقيدتهم الإسلامية في الخفاء، ولم يعجب ذلك ملك أسبانيا فاصدر في سنة 1606 قرارا بإبعاد الموريسكيين عن أرضى المملكة الأسبانية، فيما اعتبرت أكبر حملة تطهير عرقي شهدها العالم.

تحولت حياة الموريسكيين إلى جحيم في ظل القوانين المتتابعة، التي جاءت لتحد من حريتهم، وتنال من ديانتهم، وأصبح كل ماله علاقة بالإسلام مكبل، وتحولت المساجد إلى كنائس، ومنعوا من التسمية بأسماء عربية، وحرم الختان، وتم منع ذبح الأضاحي، وأخضعوا للمراقبة على نطاق واسع، وعوقب كل من يمتنع عن أكل لحم الخنزير، وأجبر السكان علي ترك أبوابهم مفتوحة للجان التفتيش، ومنعوا من استعمال الحمامات لارتباطها بالوضوء.

عند هذا الحد استحالت الحياة فهاجر الموريسكيون إلى أصقاع الأرض المختلفة، رغم التنوع الديموجرافي الكبير الذين أحدثوه عبر ثمانية قرون منذ أن تزوج الفاتحون العرب والبربر في حملة طارق ابن زياد بالأسبانيات وإلى غرس مفاهيم الثقافة العربية في كل نواحي الحياة الأسبانية، حتي أسهم هذا التلاقح في تأسيس الجزء الإسلامي من الحضارة الأسبانية التي ما زالت معالمه حاضرة حتي اليوم في أطلال العرب، الممثلة في قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، ومدينة الزهراء، وقصر إشبيلية، وقصر الجعفرية، ومئذنة الخيرالدا، وعموم روائع العمارة الدينية في الأندلس، وكل والتصاميم التشكيلية والفنية المختلفة.

ليس هذا فقط بل إن محاولة طمس الهوية العربية الإسلامية الأندلسية كان وهما غير واقعي، فلم تنجح محاكم التفتيش الأسبانية في وأدها، وفي كل مرة وإلى غاية القرن 19م كانت تلك المحاكم تكتشف متخفيين في هويات مختلفة وملتزمين سرا بعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الإسلامية، بمن فيهم موريسكيون كانوا رهبانا ومطارنة على رأس الكنائس الكاثوليكية. بل حتى في مستعمرات أسبانيا في أمريكا الوسطى والجنوبية، وأيضا في جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية حيث اتضح خلال تسعينيات القرن الماضي انهم ظلوا يمارِسون طقوسا وتقاليد إسلامية موروثة عن الوطن الأندلسي المفقود.

هرب الموريسكيون إلى المغرب والجزائر وتونس وتركيا ومصر، وحتى إلى أراضي مسيحية مثل روما وفرنسا، ويذكر أحد الآباء المسيحيين أنه شاهد في روما جماعة موريسكية مهاجرة من إشبيلية كانت تتحسر على الوطن المفقود، وأنه شاهد بعضهم في فرنسا يبكون على الحرية المفقودة.

بعض المدن العربية تحولت إلى مدن أندلسية من جراء تلك الهجرة كمدينة تطوان المغربية، أما الأغلبية الكبيرة منهم فقد ذهبوا إلى الشمال الإفريقي، ودخلوا الجزائر، ودخلوا تونس وكانوا حوالى 80 ألفاً، وكان لهم دور كبير في صنع التقدم بتونس على المستوى الحرفي والصناعي والزراعي والمعماري، وما يزالون يحتفظون بالكثير من عاداتهم وتقاليدهم في أكلاتهم وطبخهم وواجهات بيوتهم وأغانيهم وفنونهم الشعبية التي تذكرهم بأصولهم الأندلسية،

الأوفر حظا كان هؤلاء الذين وصلوا إلى مراكش، وقدر عددهم بحوالي 40 ألفا ، سكن بعضهم سبتة، وقيل من أجل أن يستنشقوا هواء الأندلس القريب جدا منهم، وكذلك وصل جماعة من الموريسكيين إلى مصر وإلى بلاد الشام..

في مصر كانوا أصحاب جاه وثروة ، وهناك كتاب للدكتور حسام محمد عبد المعطي تتبع فيه هجرتهم إلى مصر بدقة، وقال انهم استوطنوا شمال الدلتا (محافظة كفر الشيخ حاليا) فقد كانت هذه المنطقة منخفضة الكثافة السكانية أو معدومة، وقد أنشأ الموريسكيون في هذه المنطقة عددا كبيرا من القرى ذات الأسماء الأندلسية مثل الحمراوي، إسحاقة، أريمون، محلة موسى، سيدي غازي، كفر الشيخ، سد خميس، الناصرية، محلة دياي وقطور.

أيضا استوطن الموريسكيون الإسكندرية واطلقوا على أهم أحيائها أسماء مستوحاة من “الأندلس” على غرار حي الشاطبي، نسبة إلى شاطِبة، والمنشية، نسبة إلى لا مانشا، وغيرها .

أحفاد هؤلاء الأندلسيون والموريسكيون ينتشرون اليوم في كل البقاع المصرية، نذكر منها عائلات: ابن نقيطة التي هاجرت إلى مصر في القرن 16م قادمة من مدينة طليطلة الإسبانية، حميد التي وصلت بداية القرن 17م وهي من قرطبة مثلها مثل عائلة الحوني، وعائلة ديلون التي وصلت عام 1620م، وجبريل التي رحلت من قرطبة إلى مصر بداية القرن 17م، وغروش التي جاءتها في القرن 16م، والعادِلِي ، الصباحِي ، والطودِي.

في الوقت الحاضر اختلفت الدنيا ولا يستطيع الأسبان التنكر للحضارة العربية التي دخلت ثقافتهم ولم تخرج منها حتي بعد طردهم، ويعتقد العديد من المؤرخين الإسبان منهم وغير الإسبان أن طرد الموريسكيون كان "حماقة" لم يكن لها من مسوغ معقول لا من الناحية الأمنية ولا من الناحية الاقتصادية.

فاللغة الأسبانية على سبيل المثال دخلتها 4 آلاف كلمة عربية ، كما تأثرت العمارة في ربوع أسبانيا بشكل كبير بالعمارة الإسلامية في الأندلس، وحتى في الشمال الذي لم يصل إليه العرب شاهدت هناك العديد من البيوت التي ما زالت تحمل العديد من الزخارف العربية الإسلامية إلى وقتنا هذا، وفي أحد المصانع الخاصة شاهدت جهاز مازال يستخدم حتى الأن وهو جهاز القطارة اسمه كذلك باللغة الأسبانية الذي يستخدم في تقطير السوائل الذي اخترعه جابر بن حيان سنة 800 ميلادية.

علم العرب الأسبان الكثير من طرق الطهي وأدخلوا إلى المطبخ الأسباني الكثير من المحاصيل الجديدة أهمها.. الخضروات، والبهارات، وعلموهم طرق الزراعة، ومدوا شبكات الري المعقدة، وساهموا في ترشيد طرق المياه، ومن أشهر الكلمات التي تنطق بالعربية في هذا المجال " السوق، والرز، والربع وحدة القياس، والزعفران، والسوسن، والريحان، وما زالت البقوليات مثل الفاصوليا، والبسلة، والحمص، وغيرها تباع في الأسواق في أجولة كما تباع عند العطارين في المغرب ومصر.

ربما يفيق العالم يوما بعد جائحة الكورونا هذه، ويعود إلى استحضار التاريخ وتنقيته من شوائب الكراهية والظلم والتهجير القصري، ويعود الوئام والسلام وفتح الأبواب إلى كل البشر بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين. عندها ربما تسود الإنسانية وتختفي كل هذه الكراهية والحقد والغل الذي نشاهد فصوله المتتابعة في عالمنا حتى وقتنا هذا.