"المعرفة هي السلاح الرئيسي في صراع القوى المصاحب لاقتصاد ما بعد الصناعة"... عبارة قالها المفكر آلفين توفلر تنطبق في مضمونها تماما على ما حدث في بداية القرن الحادي والعشرين، الذي مر بتغيرات وتطورات بالغة الأهمية، وبخاصة في مجالات المعرفة التي أضحت السمة الأبرز في جميع القطاعات، ولا سيما قطاع الاقتصاد المعرفي، حيث برزت أهمية اقتصاد المعرفة كواحد من أهم محركات التقدم والتطور في المجتمعات الإنسانية حاليا؛ فقد أصبحت المعرفة ركيزة أساسية لأي مجتمع يسعى إلى التقدم، وتبوء مكانة لائقة بين المجتمعات الحديثة، وهذا يضعنا جميعا كمجتمعات نامية، أمام فرص وتحديات عظيمة، ستنبئ بمستقبل جديد هو مستقبل (اقتصاد المعرفة) التي تعتبر التكنولوجيا أحد أهم عناصره، وسيكون تقييم المجتمعات في المستقبل تبعا لمدى قوة اقتصادها المعرفي، ومدى هيمنة المعرفية على قطاعاته.

اتفق مع وجهة النظر القائلة إنَّ المعرفة اليوم ليست "ترفاً فكرياً" بل أصبحت أهم عنصر من عناصر الإنتاج، حيث ترتكز أهداف الاقتصاد المعرفي على طبيعة عمل المؤسسات في جميع قطاعات المجتمع، والكيفية التي يتم بها الاستغلال الأمثل لعناصر الإنتاج، لينعكس ذلك على الأهداف التي تسعى المؤسسات إلى بلوغها، ومن أبرز أهداف الاقتصاد المعرفي، تشجيع العمليات الإنتاجية القائمة على استثمار الأفكار والمعرفة البشرية خاصة في مجالات العلوم والتقنية.

وهناك عدة أسئلة لا بد من التوقف عندها: أين نحن كمجتمعات عربية من هذا التطور العاصف للعلوم والتكنولوجيا؟
وأين شبابنا اليوم من هذا الاتساع الهائل لنطاق المعرفة؟

يبدو من الواضح أن أغلب مجتمعاتنا مازالت على العتبات الأولى من سلم اقتصاد المعرفة ولم تدخل بعد حدود فضائه، وما زالت على بعد مسافة سنوات ضوئية من هذا الاقتصاد، مما أثر سلبا على شبابنا في بلوغ مراتب متقدمة بين أقرانهم من الدول الأخرى؛ فشبابنا ليسوا بمنأى عن الآثار السلبية لثورة الاتصالات والمعلوماتية التي تعصف بالعالم، فمهمة حكوماتنا اليوم هي إعداد الشباب وتأهيلهم للمساهمة في عمليات نقل المعرفة وتوطينها، لبلوغ آفاق أرحب تتحقق فيها التنمية البشرية المستدامة، وكذلك إعادة النظر في سياسات ومخرجات قطاعات التعليم، وسياسات اقتصاد المعرفة، وسياسات الإبداع والابتكار والاختراع ...الخ

تواجه مجتمعات منطقتنا اليوم تحديات كبيرة في حل مشكلة البطالة بين فئات الشباب العربي، فهي بحاجة لخلق ملايين الوظائف خلال العقد القادم لتشغيل العاطلين عن العمل؛ حيث إنها تعاني من ارتفاع معدلات البطالة بين صفوف الشباب، ناهيك عن أن العديد من بلدانها، لاتزال تشهد فترة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهددة لاستقرارها وأمنها الاجتماعي مما قد يؤدي بها إلى الفوضى غير الخلاقة.

وفي خضم جائحة كورونا اتضحت معالم احتياجنا لأدوات اقتصاد المعرفة لتلبية متطلباتنا جميعاً، من جهة متابعة تعليم أبناءنا وتسيير أعمالنا وإدارة مشاريعنا في جميع الأوقات، سألنا أنفسنا في بداية الأزمة وما زلنا نسأل هل امتلكنا أدوات المعرفة في التعليم عن بعد؟ وهل ازدادت الحصيلة العلمية والمعرفية لديهم؟ وهل امتلكنا آليات تسيير أعمالنا بنجاح واقتدار؟
أم اكتشف البعض منا أنه لا يمتلك أدنى مقومات (اقتصاد المعرفة)؛ بحيث لا يستطيع تلبية احتياجات شبابنا وملامسة طموحاتهم ؟!

من وجهة نظري كان لهذه الجائحة فضل كبير علينا، حيث إنها فرضت علينا العمل على مواكبة الواقع والعمل على إيجاد بدائل تكنولوجية تحل مشكلاتنا ونحن قابعون تحت الحظر في بيوتنا؛ فقد أوجدنا بدائل في التسوق المباشر، وكذلك في التعامل المالي من خلال استخدام البعض للعملات الرقمية و البطاقات الائتمانية، وهذا يدفعنا للتساؤل التالي: هل ستصبح العملة الورقية في المستقبل القريب من الماضي؟

إن الخروج من هذه الجائحة بسلام يستلزم منا التفكير بعمق في كيفية صناعة القادة الشباب، ليستنهضوا قوة الاقتصاد المعرفي وليتمكنوا من الدخول العملي في منظومة اقتصاد المعرفة، وذلك من خلال إنتاج المعرفة بدلاً من أن يكون مستهلكاً لها، وسيضيف بصمته في مجتمعه والعالم بأسره عند دخوله لهذه المرحلة، وبالتالي سنتمكن من أن نخلق فرصاً لتوظيف طاقات الشباب وخبراتهم بما يناسب طموحهم في مستقبل اقتصاد المعرفة، مع تقديم الدعم والعناية وهو ما سيؤدي إلى ما نحتاجه من إبداعٍ مستمرٍ ونتائج مرضيةٍ وتغييرٍ للأفضل لجميع أطراف المجتمع، وهذا ما سيُسهم بتطور شبابنا الأمر الذي يعني تحقق التنمية المستدامة في مجتمعاتنا وتخلصها من ظاهرة البطالة وهجرة شبابها.

نعم نحن بحاجة إلى إيجاد التطبيقات الإلكترونية التي تسهل علينا تسيير أمور حياتنا؛لهذا السبب لا بد من إعطاء الأولوية لمستقبل الذكاء الإصطناعي وتطبيقاته من أجل أن تتمكن مجتمعاتنا من مواجهة التحديات التي فرضها عليها التطور التكنولوجي الهائل في عصرنا الحالي، وكما قيل فإن " الذكاء الاصطناعي هو أحد أهم الأشياء التي تشتغل عليها الإنسانية، إنه أكثر عمقاً من الكهرباء أو النار"!

وعندما نقوم بتقييم ذاتنا في ظل هذه الجائحة سيبقى السؤال المطروح : هل سنرسم خارطة طريق لمستقبل اقتصاد المعرفة؟

المعرفة والتعليم
تشير نتائج تقارير المعرفة العربي والدراسات الموثقة، منذ العام 2002 حتى 2014، إلى مدى حجم وأبعاد الفجوة المعرفية في عالمنا العربي؛ حيث نجد نتائج التقارير تدعو إلى القلق خلال العقدين الماضيين، وأن أغلب الدول في منطقتنا هي في بداية أول الولوج إلى اقتصاد المعرفة، كما توضح حجم المخاطر والفرص التي تواجه المنطقة العربية في اكتساب المعرفة وإنتاجها وإبداعها وتوظيفها، باعتبارها أداة رئيسية للتنمية الإنسانية والنهضة، مما سيؤثر سلباً على شبابنا ويفاقم من مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، فإذا لم نسع جميعاً لسد تلك الفجوة بين صفوف شبابنا فسترتفع مستويات البطالة لأعلى مستوياتها، وهو ما سيؤدي إلى تزايد إقبال الشباب على الهجرة، أو الاتجاه نحو جماعات العنف.

وثمة مصدر آخر للقلق يتمثل فيما يدرسه شبابنا؛ ففي أكثر من نصف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يختار نحو ثلثي طلاب المرحلة الثانوية دراسة العلوم الاجتماعية أو الدراسات الإنسانية،و في عالم تلعب فيه الابتكارات التكنولوجية دوراً محورياً، يثير التركيز الطاغي على العلوم الاجتماعية والإنسانية تساؤلات عما إذا كان شباب المنطقة سيظلون قادرين على المنافسة؟

إن اقتصاد المعرفة يرتكز بشكل أساسي على ثقافة نشر الإبداع والابتكار في التعليم، مما يحتم علينا مراجعة مخرجاتنا التعليمية لتتناسب مع المعايير العالمية، لكي نحقق نمواً مستداماً طويل الأمد ولنخلق مجتمعاً معرفياً يلبي احتياجات التحول العالمي فيغدو التعليم لدينا أكثر إبداعاً وفعالية،وهذا كله مرهون بإحداث تغيير في المنظومة التعليمية والتحول من التعليم التقليدي إلى التعليم القائم على المعرفة والتجربة وحل المشكلات والتفكير الناقد والعمل الجماعي وإتقان مهارات الاتصال والتواصل.

وهذا التحول هو تحدٍ كبير أمام شبابنا ومجتمعاتنا وهي نقطة التحول للاستثمار الحقيقي؛ وهو الاستثمار في رأس المال البشري فعندما يبدأ الاستثمار بالعقول سيكون التعليم في قمة هرم بناء المعرفة.

لذلك لا بد من العمل للتحول نحو منظومة الاقتصاد المعرفي؛ ينبغي علينا العمل على تحقيق متطلبات هذه المنظومة الجديدة ؛ومن أهم تلك المتطلبات تحديد معايير الاقتصاد المعرفي في البرامج الأكاديمية، والعمل على تقويمها وتطويرها في ضوء تلك المعايير، وتطوير المناهج الدراسية وفق اقتصاد المعرفة، والتركيز على تنمية المهارات والاتجاهات التي تساعد المتعلم على التكيف مع متطلبات العصر.

لقد أصبح الاقتصاد القائم على المعرفة خيار حتمي لكل دول المنطقة لا مجال لتأجيله أو الهرب منه، وفي ظل هذه الجائحة التي نعيشها والتي تشهد حالة الإغلاق في معظم دول العالم، فإن الحكم على قدرة شبابنا على اﻟﻤﻨﺎﻓﺴﺔ و الإنتاجية مبنية على مدى استجابتهم وتعاطيهم مع التقنيات الحديثة ونشر المعلومات؛ فحسب تقرير للبنك الدولي -صدر العام الماضي- أن منطقتنا أمام فرصة فريدة لاستدراك ما فاتها في تدعيم منظومة اقتصاداتها الرقمية وتعديل أوضاعها لتصبح من المنافسين الاقتصاديين الأقوياء على صعيدي المنطقة والمناطق الأخرى، وأن بناء منظومة لاقتصاد رقمي إقليمي سيستفيد كثيراً من الميزتين النسبيتين اللتين تتمتع بهما بلدان المنطقة، وهما: تنافسية التعليم العالي وشباب مولع بالتكنولوجيا، وموقع إستراتيجي يتيح لها إمكانية التحول إلى مركز للخدمات والتجارة وأنشطة الربط والاتصال المتقدمة.

لذلك علينا تقديم المساعدة لهؤلاء الشباب، ودعمهم في إقامة مشاريع صناعية خاصة بهم، وتقديم المساعدات المالية والفنية لهم وتوفير الفرص التي تمكنهم من الاستفادة من قدراتهم وتسخيرها في خدمة مجتمعاته.

وبالرغم من كل التحديات التي تواجه شبابنا إلا أنني متفائل بإمكانية تخطيها من خلال إعطاء الشباب الثقة والدعم من أجل تحفيزهم على اكتساب المزيد من المعرفة؛ وهو ما سيُمكّننا من رؤية نتائج إيجابية وتأثيرٍ أكبر وإبداعٍ يصنعه شبابنا ويدفع بمجتمعاتنا للأمام، وبخاصة عندما تساعد مؤشرات المعرفة صانعي القرار في معرفة الوضع التنموي الحقيقي في كافة الدول العربية وبالتالي مساعدتهم في وضع الحلول.

ومن هنا أدعو إلى ضرورة الاستمرار بتقديم الدراسات ووضع سياسات جديدة تعزز الابتكار، وإيجاد السبل التي يمكن من خلالها توجيه كافة جهود ومجالات تطوير التعليم بمختلف مساراته وأنواعه ومستوياته، نحو دعم الاقتصاد القائم على المعرفة، وأن يكون الهدف الأسمى لهذه الدراسات تشخيص واقع اهتمام التعليم في منطقتنا بإنتاج المعرفة وتوظيفها، وتحديد التحديات التي تعزز دور التعليم فيها، لأن المعرفة كما قال الفيلسوف الروماني شيشرون :" فن ولكن التعليم فن آخر قائم بذاته".