الدولة الفاشلة هي دولة ذات حكومة مركزية ضعيفة أو غير فعالة حتى أنها لا تملك إلا القليل من السيطرة على جزء كبير من أراضيها. تصبح الدولة فاشلة إذا ظهر عليها عدد من الأعراض أولها أن تفقد السلطة القائمة قدرتها على السيطرة الفعلية على أراضيها، أو أن تفقد حقها في احتكارها السلاح للدفاع عن حدودها الجغرافية البرية والبحرية وحماية مواطنيها، والحق في استخدام العنف في الأراضي التي تحكمها. وثانيها هو فقدانها لشرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها. وثالثها عجزها عن توفير الحد المعقول من الخدمات العامة. ورابعها عجزها عن التفاعل مع الدول الأخرى كعضو فاعل في الأسرة الدولية. (ويكبيديا – الموسوعة الحرة).

خرج اللبنانيون إلى الشوارع في شهر أكتوبر من العام الماضي بعدما طفح الكيل بهم نتيجة أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية في أواخر العام 1990م، وأدت الاحتجاجات إلى إسقاط حكومة "سعد الحريري" وبعد عدة أشهر، تولى "حسان دياب" رئاسة الحكومة، لكن لا يبدو أن الأمور تحسنت، لا بل إنها ساءت أكثر حسبما يقول الواقع. وتسببت الأزمة طويلة المدى في فقدان الليرة اللبنانية حوالي 80% من قيمتها، مما أدى الى زيادة التضخم والفقر، فيما حُرم أصحاب الودائع (إلى حد بعيد) من القدرة على السحب من حساباتهم بالدولار الأمريكي، وبلغ عدد العاطلين عن العمل داخل لبنان حوالي نصف مليون شخص، فيما بلغت نسبة الذين بلا عمل بين الخريجين الجامعيين إلى 37%، طبقا لأرقام المديرية العامة للإحصاء المركزي في لبنان.

في 23 أغسطس 2019م، جاء تقرير وكالة “Fitch Ratings” للتصنيف المالي صادما وصافعا عندما خفض لبنان الى درجة “ccc” معلنا انه لا توجد خطة متوسطة الأجل ذات صدقية لتثبيت الدين الحكومي، وأن الثقة الضعيفة تنبع من عدم الاستقرار السياسي وضعف الحكومة وعدم فعاليتها، وتدهور النمو الاقتصادي وارتفاع المخاطر الجيوسياسية، وضعف العلاقة بين لبنان ودول الخليج العربي الداعم المالي الرئيسي، بسبب عدم التزام الحكومات اللبنانية سياسة النأي بالنفس في الصراعات السياسية والعسكرية في المنطقة العربية. إزاء هذا الوضع المنهار انخرط لبنان في محادثات مع صندوق النقد الدولي من أجل الاتفاق على خطة إنقاذ مالي لإعادة جدولة ديون وصلت إلى نحو 90 مليار دولار امريكي، أي ما يعدل 170 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.

يلخص مركز "كارنيجي" للشرق الأوسط في أحد منشوراته الأزمة اللبنانية بأنها: "في جوهرها أزمة حوكمة منبثقة من نظام طائفي يعاني من خلل بنيوي، ما حال دون صنع سياسات عقلانية وسمح بانتشار ثقافة الفساد والهدر". وقد يصاحب المرحلة المقبلة إعلان الدول الدائنة أن لبنان دولة فاشلة لينضم إلى نحو 50 دولة في العالم سبق أن أعلنت تعثرها عن سداد ديونها، أو أن تعلن مؤسسة مالية دولية عن افلاس لبنان، وهو ما يجعله رهينة لإملاءات الدائنين الدوليين وشروطهم التعسفية، وكذا رهينة للدول الدائنة، سواء الخليجية أو الأوروبية، التي تريد فرض وصايتها على القرار اللبناني.

لبنان بلد منكوب، حيث يعمل السياسيون الفاسدون والمتنفذون على نهب المال العام، وحيث تستمر الشكوك في قدرة الدولة على تنفيذ ما تعد به من إصلاحات، من منطلق واحد، وهو أن السياسيين الفاسدين الذين صنعوا الكارثة منذ زمن بعيد، هم الذين سيجترحون معجزة الإصلاح والإنقاذ. وهذا ما دفع البطريرك الماروني "بشارة الراعي" مؤخرا الى البوح بما يعتمل في صدور اللبنانيين، حيث قال بوضوح: "إن المسؤولين في الدولة على كل المستويات، يتآكلهم الفساد السياسي والأخلاقي والمالي، وإنهم يهملون الشعب في معيشته وحقوقه الأساسية، بإهمالهم النهوض الاقتصادي والمالي، وبتغطيتهم التهريب والتهرب الضريبي، وحماية المفسدين والتغطية عليهم، ولهذا عندما تقولون إن الخزينة فارغة، فأنتم الذين أفرغتموها في جيوبكم".
لبنان الآن عالق في وسط نفق مظلم وغير قادر على الزحف إلى الأمام أو إلى الوراء. الإفلاس في جوهره هو إفلاس طبقة سياسية ـ مالية مفترسة تتبجح بفسادها علانية من غير خوف او حرج، وهو أيضا إفلاس اجتماعي وثقافي، تمثل في نمط حياة غير طبيعي مبني على نكران الواقع والتعلق بالتمنيات، ونبذ النقد الذاتي ومحاسبة الأخطاء والخطايا، والميل لعدم تحمل المسؤولية، وتحميل "الآخر" إن كان في الداخل أو في المحيط أو في العالم البعيد مسؤولية أزمات اللبنانيين. ودائما هناك التعلق بالمنقذ الآتي من الخارج لتصحيح الوضع مؤقتا، ووقف الانهيار الراهن، وحماية مكتسباتهم، ولكن ليس لحل معضلاتهم الحقيقية. لبنان في الواقع في طريقه إلى خانة الدول الفاشلة.

في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، كان لبنان نموذجا حيا للتصالح والتعايش بين الطوائف والأقليات، رغم اعتماده نظام المحاصصة الطائفية الذي كان من المفترض ان يلغى تدريجيا حسب اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الأهلية في أواخر العام 1990م، ولكن يبدو ان زعماء الطوائف لا يرغبون في ذلك خوفا على مصالحهم الشخصية وفقدان نفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لهذا صمتوا عن المطالبة بتنفيذ هذا الاتفاق. لم يكن لبنان مركزا ماليا فقط، كانت بيروت عاصمة للنشر والطباعة في العالم العربي، وكما كانت باريس بالنسبة لأوروبا، كانت بيروت ملجأ للمعارضين السياسيين والمفكرين والمثقفين والفنانين العرب، احتضنتهم وحمتهم من بطش انظمتهم الحاكمة.