إن جهود فخامة الرئيس أشرف غني في جمع مجلس اللويا جيرغا -وهو مجلس يضم كبار المسؤولين والنواب وشيوخ القبائل والمتنفذين الأفغان ويبلغ عدد أعضائه ٣٢٠٠ من الرجال والنساء- لتحديد مصير ال٤٠٠ سجين من طالبان والتي بسببهم لم تبدأ المفاوضات، والذين أصرّت طالبان على إطلاق سراحهم لبدء المفاوضات المباشرة مع الحكومة، وذلك بعد أن أعلن الرئيس غني بأنه لا يحق له إطلاق سراح المتبقين بسبب أحكامهم والحقوق العامة والخاصة عليهم وأوكل الأمر إلى مجلس اللويا جيرغا.
حيث تم تقسيم أعضاء المجلس البالغ عددهم ٣٢٠٠ شخص على خمسين لجنة، ونتيجة التصويت كانت إيجابية من كافة اللجان، الذين طالبوا الحكومة وطالبان بوقف إطلاق النار ونقل المفاوضات إلى داخل أفغانستان.
وكان من أبرز المتحدثين في مجلس اللويا جيرغا، الرئيس السابق حامد كرزي، والذي دعى فيه طالبان بـ "الإخوة" وحثّهم على وقف الحرب وبدء المفاوضات مع الحكومة.
وشهد المجلس محاولات شدّ وجذب وبعض الاختلافات في الآراء، حيث رفعت "بلقيس روشن" عضو مجلس النوّاب الأفغاني، والنائبة عن ولاية فراه، شعاراً كتبت فيه "عرض التنازلات لطالبان خيانة وطنية"، ولكن سرعان ما تم إخراجها من المجلس، وواجه هذا الموقف انتقاداً كبيراً من الناس، باعتبار أن اللويا جيرغا مكاناً يضم الجميع ويستمع إلى آرائهم سواء كانت هذه الآراء موافقة أو مخالفة، وعلق الدكتور عبد الله عبد الله على الحادثة وأكد على حرية الرأي للجميع واعتذر من النائبة عما جرى لها، وكذلك الحال بأن اعتذر منها الرئيس غني.
حيث خرج المجلس في جلسته الثالثة والأخيرة يوم الأحد الثامن من أغسطس الجاري، بنتائج إيجابية وأصدر قراراته حول عملية المصالحة في خمس وعشرون بنداً، ومنها قرارات مهمة جداً في خارطة المصالحة الأفغانية.
حيث جاء في البند الثاني الذي جاء فيه موافقة المجلس على إطلاق سراح من تبقى من سجناء طالبان، وذلك وقفاً لإراقة الدماء وإنهاء الحرب.
فيما نصّ البند الثالث على أنه في حال وجود سجناء غير أفغان من ضمن الـ ٤٠٠ سجين فسوف يتم الإفراج عنهم وتسليمهم إلى بلدانهم وأخد ضمانات عليهم.
ويأتي تصويت أعضاء المجلس بشكل كامل على إطلاق سراح سجناء طالبان المتبقين والبدء في المفاوضات بشكل عاجل مع وقف دائم وفوري لإطلاق النار في أفغانستان، يُظهر جليّاً بأن الشعب الأفغاني بأكمله مستعدون وجاهزون للمصالحة وفتحوا ذراعيهم لطالبان من أجل السلام والاستقرار.
وهذه النتيجة التي توصّل إليها "اللويا جيرغا" هو نصر للحمائم والشعب الأفغاني بأكمله، من الذين وضعوا مصلحة أفغانستان فوق كل شيء على الرغم من معارضة الكثير، إلا أن الرئيس غني استطاع إقناع الأفغان، كما تمكّن الدكتور عبد الله عبد الله رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية، من إدارة مجلس اللويا جيرغا بشكل موفق، بعد أن تسلمها قبل أيام معدودة، وهذه المرة الأولى التي يتم فيها التنسيق بشكل جيد بين الرئيس غني والدكتور عبد الله في إدارة عملية المصالحة، والأمر الذي أسكت جميع "الصقور" الراغبين في إطالة أمد الحرب الأفغانية، وهم الذين كانوا يعملون على إقناع الشعب الأفغاني بأن الحكومة سوف تكون هي المنتصرة في هذه الحرب.
وجاء في البند الرابع عشر، موافقة المجلس على إجراء تعديلات في الدستور الأفغاني، إذا دعت الحاجة لذلك؛ وهذ البند له تأثير كبير في المفاوضات بين الحكومة والحركة، لأن طالبان أبدت اعتراضها على بعض مواد الدستور الأفغاني وطالبت بتعديله، وهذا البند يفتح الباب أمام أية تعديلات قد تحتاج إليها المفاوضات.
وقبل انعقاد مجلس اللويا جيرغا بأيام، شهدت الساحة السياسية حراكاً كبيراً، بدءاً من الاتصال الذي جرى بين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ورئيس المكتب السياسي لطالبان الملا غني برادر، وحديث المبعوث الأميركي إلى أفغانستان زلمي خليل زاد على تويتر، والذي طلب فيها من أعضاء اللويا جيرغا الموافقة على إطلاق سراح السجناء؛ والأهم من ذلك كله كلمة الرئيس أشرف غني في افتتاح اللويا جيرغا، والذي تحدث فيه إلى الشعب الأفغاني ونوّابهم قائلاً "في حال وافقتم على إطلاق سراح السجناء، فسيتم البدء في المفاوضات المباشرة خلال أسبوع، ولكن في حال رفضتم فإن الحرب تستمر وتزيد رقعة العمليات العسكرية والتي بسببها تدمّر البلاد ويُقتل الآلاف"؛ فكانت تلك رسالة واضحة من الرئيس بأنه لا طريق في أفغانستان غير المصالحة.
وفي غضون اجتماعات اللويا جيرغا، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ووزير دفاع مايك إسبر أنه يتم تقليص عدد القوات الأميركية في أفغانستان، وسيصل قبل حلول الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر من العام الجاري، إلى ٤ أو ٥ آلاف جندي أميركي، وهذا يعني تقليص العدد بأربعة آلاف وخمس مئة جندي إضافي، مما يدل على أن الرئيس الأميركي مصمّم على تنفيذ الاتفاقية التي وقعتها بلاده مع طالبان.
ومما يساعد ترجيح كفّ الحمائم" في إدارة الرئيس أشرف غني، هو تصريح المرشح الديمقراطي الأميركي جو بايدن، الذي أكد أيضاً على خروج القوات الأميركية من أفغانستان مهما كانت نتائج انسحاب القوات الأميركية، لأنه على حدّ تعبيره بأن "أميركا ليست شرطيّ العام، وليست مسؤولة عن تطبيق حقوق الإنسان في دول العالم"، وأنه لن يحسّ بتأنيب الضمير إذا نتج عن خروج القوات الأميركية أي نوع من الانتهاكات؛ فكانت هذه رسالة واضحة بأن أميركا تعبت من الحرب، وحان الوقت الآن بأن يحل الأفغان مشاكلهم بين أنفسهم.
وتتوالى المبشّرات والردود الإيجابية حول عملية المصالحة إعلان حركة طالبان في وقت سابق بأنه في حال الإفراج عن جميع سجنائه، فإنهم مستعدون لبدء المفاوضات بشكل فوري مع الحكومة وخلال أيام معدودة.
فيما زال الغموض يحوم حول مكان انعقاد المفاوضات، على الرغم من أنه شبه مؤكد بأن يتم في قطر، ولكن الحكومة الأفغانية لا تميل إلى عقد المفاوضات في الدوحة، وترغب بنقلها إلى أي بلد آخر، ولكن باعتقادي أن هناك لوبي كبير يعمل على عدة اتجاهات في كابل وأميركا وأيضاً في طالبان، على أن يتم منح الدوحة حق استضافة المفاوضات، ولكن رغم هذا اللوبي إلا أن الحكومة سوف تقرر بأن يتم متابعة المفاوضات خارج الدوحة في أول فرصة ممكنة، كما أن بعض الدول الأوروبية والإسلامية سوف تعمل وتحاول خطف الأضواء وسحب البساط من القطريين واستضافة المفاوضات بين الأفغان على أراضيهم.
إننا نشكر الرئيس أشرف غني على هذه الخطوة والحصول على إجماع وطني للمصالحة مرة أخرى، ونتمنى أن الإفراج عن سجناء طالبان يهيئ الأجواء لبدء المفاوضات المباشرة ويوقف إطلاق النار في البلاد ويتم توقيع اتفاق المصالحة.
إن الحرب الأفغانية ليس فيها غالب أو مغلوب، لأنها حرب داخلية، ويظل الخاسر الوحيد فيها هو الشعب المكلوم وبلدهم المنكوب.
فالدولة التي لم تتمكن الانتصار في الحرب منذ عشرين عاماً وهي تحظى بدعم كبير ومشاركة أكثر من ١٥٠ ألف جندي أجنبي من القوات الأميركية وحلف الناتو، مع توفّر الإمكانات الحربية الخارقة لها من طائرات ودبابات ومدرّعات، فكيف يمكنها الآن الانتصار في هذه الحرب والقوات الأميركية على وشك الانسحاب من أفغانستان؟ وحسب ما صرّح وزير الدفاع الأميركي مايك إسبر قبل أيام، بأنه بحلول نوفمبر العام الجاري سوف يكون عدد القوات الأميركية في أفغانستان أقل من خمسة آلاف جندي.
*سفير أفغانستان السابق في السعودية
التعليقات