لا شيء يعلو على هول الفاجعة التي ألمّت بالشعب اللبناني المنكوب إثر كارثة انفجار المرفأ التي خلفت دمارًا هائلا أعادت إلى الاذهان صورة هيروشيما إبان الحرب العالمية الثانية. فقد طفح كيل الشعب اللبناني حيث بدا له جليًّا عمق الاستهتار وغياب المسؤولية عن قادة البلد وزعمائه، الذين سارعوا إلى التبرؤ من مسؤوليتاهم على مرأى ومسمع الشعب المكلوم، الذي تحوّل الى رهينة بيد ميليشيا حزب الله التي تستعمله كورقة ضغط في المحافل الدولية لفك الحصار الاقتصادي من جهة وللحصول على مساعدات من جهة أخرى.

و تتجه الأنظار حاليًّا الى الحراك الديبلوماسي الذي يقوده ممثلو الثلاثي الدولي انطلاقاً من المبادرة الفرنسية واستقصاء رد الفعل الأميركي كما الإيراني اثر استقالة حكومة حسان دياب ، حيث تبدو التحليلات كلها تصب باتجاه الدفع بتشكيل حكومة تكون "مقبولة دوليًّا". غير أن الشعب المنكوب يأمل بالخلاص الحقيقي بعيدًا عن تجاذبات الدول الإقليمية ومصالحها لا سيما مع تأزم الوضع في شرق المتوسط.

وقد بدت لهجة المواقف الدولية حاسمة وتجلت في خطاب كلٍّ من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، و وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل الذين سارعا الى زيارة لبنان عقب الفاجعة، حيث طالبا السلطات اللبنانية بالاسراع في إصلاحات بنيوية وهيكلية توفّر الحد الادنى، مؤكدين على أنها البوابة الاجبارية ليستعيد لبنان صدقيته في العالم والثقة المفقودة داخليّاً وخارجيّاً.
وعلى الرغم من عمق المأساة، وعلى الرغم من هبّة المجتمع الدولي لمساعدة محتاجي لبنان بشكل مباشر بعيدًا عن فساد المؤسسات الرسمية، إلا ان مخاوف المجتمع المدني تجاه تشكيل "حكومة توافقية " لا تزال قائمة لا سيما فيما يتردد في الكواليس عن عودة أقطاب "الزعامات السياسية الطائفية " نفسها.

وأمام هذا الواقع لا بد من التحذير من الوقوع في فخ إعادة انتاج السلطة الحالية القائمة على معادلة (ابقاء السلاح وابقاء الزعامات الطائفية ).

وللخروج من دوامة اعادة انتاج الفساد لا بد من حل جذري يؤسس لدولة محايدة في سياستها الخارجية ، وتقوم على العدالة الاجتماعية الشاملة والشفافية في سياستها الداخلية، إذ لا خلاص حقيقي للبنان إلا عبر نقاط محورية جذرية ثلاث تنفذ تحت إشرافٍ أممي و وصاية دولية وهي :

أولا : إعلان لبنان دولة فاشلة: الوضع اللبناني أكبر من كارثيّ على كافة الصعد الانسانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويؤكّد بشكل لا لبْس فيه على أن الدولة اللبنانية فاشلة فاسدة بكل المقاييس، وأنّه لا ثقة في كافّة أجهزتها بما فيها الأمنية والقضائية ، الأمر الذي يتطلب حلول استثنائية وإنقاذ فوري حاسم.

ثانيًا: البدء بتحقيق دولي شامل لا يطال كارثة انفجار المرفأ وحسب، بل يشمل كل ملفات الفساد والسرقات ، ولا يستثني من الطبقة السياسية أحدًا ممن توالوا على حكم لبنان طيلة عقود ثلاث، كما لا يستثني الأجهزة القضائية والأمنية والمالية وغيرها وذلك لضمان الشفافية وإحقاق الحق وإعادة كافة الأموال المنهوبة.

ثالثًا : تشكيل حكومة إنقاذ محليّة برعاية أممية وحلّ كافة الأحزاب الطائفية والعقائدية والسياسية ونزع سلاحها.

هذه النقاط الثلاث بطبيعة الحال ستكون مرفوضة جملة وتفصيلا عند الاقطاب السياسيين المعهودين الذين يسعون الى المراوغة مجددا بطرح حكومة "وطنية توافقية" تحت مسمى حكومة "وحدة وطنية"، وهذا الطرح ليس إلا إعادة انتاج للطبقة الفاسدة نفسها التي كانت ولا زالت تسرق اللبنانيين وتعيث في الأرض فسادًا وإهمالا، و تعني اعادة تدوير معادلة (تغاضى عن السلاح لأتغاضى عن سرقاتك)، إن تأليف حكومة بمشاركة هؤلاء الفاسدين وبمشاركة "حزب الله" بسلاحه المنفلت والغير الشرعي ، يعني التغاضي عن الدور الميليشوي الذي يمارسه الحزب جهارًا نهارًا في ترهيب الداخل اللبناني علاوة على دوره الارهابي المسلح المعلن والمكشوف في كافة دول المنطقة؛ كما يعني التغاضي عن الأموال المنهوبة من قبل الأطراف الأخرى. حكومة كتلك ستعيد انتاج مبدأ المحاصصة وتقاسم الثروات.
إن حكومة الانقاذ المطلوبة لا تكون انقاذية إلا بنسف المنظومة السياسية الفاسدة برمتها، بما فيها قوى "المعارضة " التي لعبت دورًا سيئًا عبر مشاركتها في حكومات متعاقبة كان المتحكم في قرارها الفعلي حزب الله.

فالمطلوب حكومة عمل جاد من اختصاصيين من خارج التيارات السياسية كلّها تعمل ما هو مطلوب من إصلاحات توفّر الحد الادنى من مطالب صندوق النقد الدولي ليستعيد لبنان صدقيته ومصداقيته في العالم وللاستفادة من قروض وهِبات الجهات والحكومات المانحة. ويعيد الثقة المفقودة داخليّاً بتوفير الخدمات الأساسية.

إن تشكيل حكومة إنقاذ ينبغي ان تكون مهمتها الاولى حل الاحزاب وسحب السلاح من أيدي الميلشيات واعادة الاموال المنهوبة والذهاب الى انتخابات نيابية ، حكومة كتلك من المتوقع ان ترفضها القوى السياسية جلّها، وعلى رأسهم حزب الله الذي لا ولن يرضى بتسليم سلاحه ولا بوقف تدخلاته العسكرية في دول الجوار، ولن يتوقف عن غسيل الاموال وتجارة المخدرات لتأمين موارده المالية ، كما لن يكف عن السيطرة الأمنية على المنافذ الحدودية البرية والبحرية والجوية ليضمن لنفسه حرية الحركة الغير مشروعة له، لذلك سيعمل على إجهاض ولادة أي حكومة لا تضمن له ذلك وسيقاتل بشراسة و وحشية من اجل الحفاظ على دوره الارهابي ، وبالتالي فلن يتورع عن إشعال حرب أهلية داخلية لا تبقي ولا تذر و التي سيعتبرها معركة وجودية والنصر فيها "إلهيا"!

وعليه فإن حزب الله يجبر اللبنانين ويخيرهم بين "حكومة شكليّة" على مزاجه مع بعض التنميقات الشكلية أو الذهاب الى حرب داخليّة.

أخيرا وتحسبًّا للسيناريو الكارثي الاسوأ فإن على المجتمع المدني المطالبة اليوم وأكثر من أي يوم مضى، بوصاية أمميّة على لبنان تعمل على انقاذ ما تبقى من اللبنانيين المنكوبين عبر تشكيل حكومة انقاذ من مختصيين، وفرض وصاية عسكرية اممية من قوات اليونيفل تعمل على ضبط الحدود اللبنانية، وترغم حزب الله على الانصياع لتفكيك منظومته العسكرية التي تستعمل المناطق المأهولة مخازن عملاقة لتخزين الأسلحة مما ينذر بكوارث مهولة محدقة.