بعد سنوات ثلاث بدأ الكورد يدركون حجم خسارتهم بتحدي الإرادة والرغبة الدوليتين عند إقدامهم على المغامرة الخطيرة بمصير مكاسبهم المتحققة بعد سنين من الكفاح والنضال الدموي ضد الحكومات المتعاقبة في العراق، وتضحياتهم الجسام في سبيلها، عند إجرائهم الاستفتاء المثير للجدل، وهم الآن أبعد ما يكونون مما كانت عليه أوضاعهم قبل الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) عام 2017.

أولى حلقات الخسارة بدأت بتقسيم الصف الكوردي فقد كان التباعد سيد الموقف بين توجه الاغلبية الساحقة التي كانت ترى أن الأولوية يجب أن تكون لتحسين الوضع المعيشي للمواطنين وتأمين رواتب الموظفين وإصلاح ذات البين وبناء اقتصاد وطني قوي وجيش ومؤسسات امن كوردية موحدة وسيادة القانون ومحاربة الفساد واتباع الشفافية في الواردات وتأمين بنى تحتية متينة وبين آراء النخبة سياسية التي اتسمت بالتفاؤل بقرب الوصول الى الهدف المرجو دون إيلاء الاهتمام للمقومات التي ستتركز عليها الدولة التي ستتمخض عن الاستفتاء والأسباب التي تضمن صمودها، ولايزال الشارع الكوردي بجماهيره وأطرافه السياسية منقسمة بسبب كل ذلك إلى يومنا هذا.

وكان التوقيت يمثل نقطة الخلاف الرئيسة بين التوجهين السائدين آنذاك، فقد كان هناك اتفاقا مطلقا على أحقية الشعب الكوردي في الاستقلال مثله مثل باقي الشعوب على وجه البسيطة، وما كان يتبقى هو تحديد الفرصة السانحة للاقدام على الخطوة التي سيشكل اهمالها تحديا يهدد بعرقلة الخطوات نحو تحقيق الحلم، وكانت الفرقة والتشنج والتباعد والخلافات الحادة بين الأطراف السياسية سائدة، وكان تعطيل البرلمان وهو رأس السلطة التشريعية في الاقليم ورمزه الديمقراطي قد تجاوز أكثر من عام كما بدت حكومة القاعدة العريضة (دون اربعة وزراء لحركة التغيير) عاجزة عن إيجاد حل جذري ودائم للوضع الاقتصادي المتدهور وسط خلافاتها القائمة مع المركز حول الميزانية وكيفية بيع النفط وتصديره بشكل مستقل، فيما كان المواطنون يمرون بأسوأ حالاتهم المعيشية بسبب عدم تسلم رواتبهم وتأخرها لشهور فضلا عن اتباع نظام الادخار المفروض عليهم.

أصحاب التوجه الأول كانوا يرون ان الظروف غير مواتية لقيام الدولة التي ستكون غالبا ضعيفة ومفتقرة لعناصر الديمومة في حال اعلانها آنذاك وكما كانوا يرون أن الإقليم يمر بمشاكل لايحسد عليها وستكون احتمالات وقوفها على قدميها ضعيفة جدا، ومن هذا المنطلق كانوا يعتبرون الالحاح غير المبرر على مسألة الاستقلال ولاسيما في تلك الظروف إنما هو الهاء للناس وصرف للأنظار عن المشاكل الأساسية وتهرب من الواقع وتملص من المسؤولية تجاه الأزمات المستفحلة في وقته. فيما كان الفريق المقابل ومعظم مؤيديه هم من الساسة، يشدد على أن الوقت لإقامة الدولة افضل من أي وقت مضى معتبرين الدعم الدولي الذي كانت قوات البيشمركة تحظى بها في حربها ضد تنظيم داعش وزيارات المسؤولين الكبار في الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد الإرهاب إلى أربيل بمثابة الضوء الأخضر للمضي قدما في إقامة الدولة، غير مكترثين أو آبهين بالشأن الداخلي الذي كان سيمثل مصدر قوة رئيسية في تعزيز الموقف الكوردي فيما يتعلق بالأجراءات التي ستسبق الإعلان، وغير آخذين في الاعتبار عدم افصاح أي جهة دولية رسميا عن دعمها لمثل تلك الدولة المحتملة.

تصريح السياسيين في الاقليم عن ان الاستقلال ان حدث لابد وان يكون سلميا وعبر الحوار والتفاهم مع الحكومة الاتحادية في العراق وبموافقتها، كان يشكل عائقا زمنيا آخر، فالعلاقات بين الجانبين كانت تشهد توترا شديدا على الرغم من الزيارات المتبادلة بين وفود الجانبين وبالتالي فإن الاعتماد على كسب دعم بغداد أو على الأقل عدم ممانعتها لاعلان الدولة ولاسيما في تلك الظروف كان مستبعدا بكل المقاييس ومناف للمنطق من جميع أوجهه.

والمواقف والتحركات السياسية التي شهدتها كوردستان قبل اجراء الاستفتاء بأيام كانت تشير إلى عدم اتخاذ اية استعدادات جدية أو تهيئة الأرضية الصحيحة لتلك العملية الحساسة قبل تأكيدات المسؤولين على تنظيمها. حتى أن الأطراف الرئيسية المشاركة في العملية السياسية لم تبحث فيما بينها آليات كيفية إعلانها أو إجرائها أو حدودها الجغرافية او العقبات التي كانت ستعترض طريقها او التفاصيل الأخرى وفي مقدمتها الجهة القائمة على تنظيمها (الحكومة او البرلمان) كما لم تتوصل حتى الى تفاهم مبدئي حولها، الاختلاف الكبير في المواقف لم يكن يبعث إشارة إيجابية للبدء بجمع الدعم والتأييد للاستفتاء كما لم يكن عاملا مساعدا في انجاحه واتمامه على الوجه الصحيح.

واذا كان الهدف من الاستفتاء هو ابلاغ العالم والمجتمع الدولي بأرادة ورغبة شعب كوردستان كما كان يدعي بعض المسؤولين ويعتبرونه ورقة ملكية (طابو)، فان هذه الحقيقة تم اثباتها بتمام الوضوح قبل 15 عاما عندما كان العراق الجديد يمر بطور التكوين وتثبيت الاقدام بمساعدة ودعم من الكورد، حيث جاءت آراء وتوجهات شعب كوردستان جميعا بما فيه الاحزاب والأطراف السياسية مؤيدة لعدم التخلي او المساومة حول حقه المشروع وعدم قبوله بأقل من الاستقلال، حين نظمت "حركة الاستفتاء" وكانت حركة مدنية في الثلاثين من كانون الثاني (يناير) عام 2005 علمية جمع الاصوات للاستقلال في جميع انحاء كوردستان والمناطق المتنازع عليها في كركوك والموصل تزامنا مع الانتخابات البرلمانية العراقية وكانت النتيجة ان نسبة 98.6% من الناخبين قد صوتت بـ"نعم" لاستقلال كوردستان فيما قدمت النتائج كوثيقة مهمة الى المفوضية العليا لحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة، كما تم قبل ذلك جمع مليون و750 الف توقيع داخل اقليم كوردستان وحوالي 300 الف توقيع خارج كوردستان لدعم مذكرة اجراء الاستفتاء وتم تسليمها الى حكومة العراقية والمفوضية العليا لحقوق الانسان وممثل الامين العام للامم المتحدة.

المواقف والبلاغات والتصريحات الرسمية للاطراف السياسية في كوردستان في شكلها العام كانت تدخل جميعا ضمن مساعي الدعم والدفاع عن اجراء الاستفتاء واعلان الاستقلال ولكن كان من الملاحظ وجود اختلاف واسع في مضمون وتفاصيل وآليات الآراء والتوجهات والتي لم تصب نهاية المطاف في مصلحة تلك المسألة الوطنية والقومية الهامة والحساسة وقد تحولت إلى مصدر لنشوب خلافات كبيرة وأزمة أخرى أضيفت إلى أزمات العملية السياسية المتجمدة في الأقليم، وانتهت بفقدان مناطق واسعة من الاقليم وسيطرة الحكومة المركزية عليها.

أصوات كثيرة ارتفعت منذ اعلان موعد اجراء الاستفتاء محذرة من العواقب التي كانت ستترتب على ذلك الإجراء في حال القيام به، منادية باللجوء الى الحكمة والتعقل وعدم زج المنطقة في تواترات وأهوال اضافية هي في غنى عنها، الإ ان الآذان لم تكن صاغية وتمادت في ضرب جميعها عرض الحائط واستمرت على نهجها في تعبئة واثارة حماسة الجماهير مستغلة حسن نيتها وحرصها القومي العميق.

محليا كانت الأصوات المعترضة على إجراء الاستفتاء في ذلك التوقيت تستند إلى أنه لابد من أن تكون الخطوة قبل تحقيق حلم الاستقلال وسيلة للتوحيد ولم شمل الاصوات والألوان المختلفة ونبذ القطيعة والانعزال، وليس تعميق الخلافات وتوسيع الهوة وزيادة حدة التوترات مؤكدة على عدم توظيف هذه القضية المصيرية في مغامرة خطيرة ولعبة غير معلومة النتائج ضد بغداد.
اما دوليا فقد كانت الاعتراضات تتركز على ان التوقيت غير مناسب وأن الأولوية هي لمحاربة مسلحي تنظيم داعش الإرهابي قبل اي شيء آخر وان الاستفتاء من شأنه ان يضعف الجبهة ضد داعش. كما لم يكن الأمر يتمتع بدعم دولي كافي يظفي عليه قوة الشرعية الدولية.

ردود الافعال والتصريحات والمواقف الداخلية والاقليمية والدولية كانت تدل على ان الخطوة الأولى لمسيرة استقلال كوردستان لا تسير على طريقها السوي القويم وكان تصحيح المسار قبل القيام بأية خطوة اخرى يمثل ضرورة ملحة لضمان تحقيق الاستفتاء اهدافه ونتائجه المرجوة.
*صحفي كوردي